الدكتورة يسرى
التقيت بالدكتورة يسرى عندما أجريت مقابلة للعمل، وكنت هادئة رغم تنوع توقعاتي، أما هي فكانت في قمة تركيزها، تجلى ذلك من نظراتها الفاحصة وأسئلتها الدقيقة، فلقد كانت مستقرئة للثوابت والمتغيرات التي تطرأ على المنفعلين أو المغفلين في أوقاتٍ تعد حرجة، وتفاديت الارتباك بأن أسهمت بجملٍ وعبارات لخصتني في ثوانٍ، وحجبت عني كثيراً من فرصٍ يتطلع لانتهازها أعضاء اللجنة، وسقط بذلك جميع الكلام المضاد للمنطق. وبعد الإجراءات انضممت للعمل تحت لوائها، فهو المشروع ذاته الذي تعيش تحت ظلاله تجاعيد الوقت وتفاصيله، وتتنهد عند أطلاله ذكريات طفولتنا ومن سبقونا لحب هذا الوطن وترابه، عندما عاشوا عليه ثم بين أحضانه. فقلت للجَنة: “الروح فداء لدار زايد”، فسألوني وماذا عن وحشة الطريق؟ فقلت: حتى المصير له ثمن. وجاء الحبر والورق، والقرار، والدوام فصبرت على زحمة الدروب، وحوادثها وسرعة المسافرين في الضباب، والليل والنهار، ووضعت عملي في مقام الروح ونصب العين.
ومع مرور الوقت تعرفت عليها عن كثب، فاكتشف إنسانة مخلصة لكل ما يحيطها وبمعايير مهنية تقف بلا منافس، وهي زوجة تقدس القفص البلاتيني الذي يسكنها منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهي أم تربي أبناءها وفقاً لمواصفات ومفاهيم الرعيل الأول، وهي وقور متفانية في عملها الذي تتمنى أن يؤديه الآخرون بنفس مستوى طاقتها وتوقعاتها. وعملت معها لأكتشف كل هذا وأكثر وبعد ثنائها على عملي فعل بي الأرق ثم القلق ما فعلا.
وذات صباح جاءت بابتسامة خرقت جدران وأجواء العمل وقالت يريدك صاحب الشأن في كلمة، وعَـبَرَ صَوتهُ الوقت والمحيطات ثم جاء بالخبر فوجدتني كقشة تصارع “تسونامي اليابان” وجرفتني المشاعر والدموع. لقد سعت وراء ترقيتي بجهدٍ تجاهل الأنانية فوقفت في صلاة شكرٍ لله، وتمنيت لو أن والدتي تعيش لترى وتسمع ما سمعت.
وكبرت في نظري من تقديرِ حسبتني لا أستحقه فعملي لا يرتبط بتوقعات بل تحسين الأداء، وآخر ترقية وصلت بعد معترك ست سنوات. لا أعرف شيئاً عن الترف أو السهولة. وأذكر “أبلة” صفيناز مدرسة العلوم تقول: “يابت ياحلوفة، يعني حتكوني ايه ياعني دكتورة مَسَلاً،... انتي يادوب تكوني فراشة!” وتحدتني “كعكة” الجغرافيا التي تجاوزتها في الدور الثاني فحصلت على الثانوية العامة، ولم أحصل على بعثة دراسية لتدني درجاتي فعملت لفترة من الزمن طباخة وعاملة بناء لأخفف عبء والدتي معيلة الأسرة، ثم صرت أقلق على امتيازاتي فلم تفارق درجاتي قائمة العميد طوال دراساتي العليا، ومرضت والدتي أثناء تقديمي لرسالة الدكتوراه فكنت أنام معها وبيننا المحمول في الغرف الخاصة والعامة والإنعاش، وأصابني التهاب في العينين خلال أسبوع مناقشة الأطروحة، ثم سرق جواز سفري وأنا في بلدٍ ليس به تمثيل لبلادي، فحرمني ذلك من حضور التكريم بالدكتوراه وغير ذلك كثير. ولكني لم أفكر يوماً بالحظ أو بالنحس ولصدفةٍ أجهلها أصبحت لدي مجموعة لا يستهان بها من السلاحف، جُـمِعَـت لما أرى في شخصية كل واحدة منها ثم أدركت لاحقاً أن السلحفاة من رموز المثابرة.
للفاهم أقول، للدكتورة يسرى من اسمها نصيب والتيسير من الله جل وعلى.
د. عائشة بالخير bilkhair@hotmail.com