خلقك إبداع
ونبقى مع ابن بقي الطليطلي، لنقرأ منه موشحة أخرى من المجزوء الراقص الخفيف النغم، وهو غزلية خالصة تشدو بالحسن وتبهر بالجمال، ومركزها بيت واحد مضموم العين في الآخر، مطلعها يقول:
أفردت بالحسن
أم خلقك إبداع
وفي غيبة معجم تاريخي للغة العربية، يدلنا على أول شاعر استخدم صيغة عربية معينة، أو أول ناثر وردت في كلامه المحفوظ، فإننا لا نعرف من الذي سبق ابن بقي في استخدام الكلمة المركزية في لغة اليوم وهي “إبداع”، لأن القرآن الكريم ورد فيه “بديع” و”بدع” لكن لم يرد إبداع، وربما كان بعض الفلاسفة المسلمين قد سبقوا إلى الحديث عن الفرق بين الخلق والإبداع، حيث يشترط في الإبداع أن يكون خلقا من العدم، وربما كان لنا أن نتصور مبدئيا أن هذا الشاعر الأندلسي هو أول من استخدم كلمة “إبداع” مشربة بدلالات فنية وجمالية تقارب ما تعنيه هذه الصيغة في لغتنا اليوم، ومن هنا وضعها قسيمة للتفرد بالحسن والجمال، ثم يمضي الشاعر فيقول في المقطع الأول:
أرى لك مهند
أحاط به الإثمد
فجرد ما جرد
فيا ساحر الجفن/ حساك قطاع
وكل مقطع من الموشحة يختص بملمح جمال محدد، فهو هنا يتحدث عن سحر العيون البتارة كالسيف عندما يحيط بها الكحل وهو الإثمد، فتجرد حملاتها الساحقة على العشاق كي تصدعهم بحسامها القطاع، ثم ينتقل إلى ملمح آخر قائلا:
أيا فتنة القلب
خف الله في صب
قتيل من الحب
تمنيه بالمزن/ وبرقك خداع
والمزن هو المطر طبعا، والأماني والوعود كالبرق الخادع الذي لا يعقبه مطر، ونلاحظ أن فتنة القلب من التعبيرات اليسيرة المؤثرة، ودعوة المحبوب إلى خشية الله والإشفاق على العاشق النبيل من الوجد، وكلها صيغ قريبة مما يجرى على الألسنة وتدور به كلمات الأغاني المتداولة تتسم بالبساطة والتلقائية القريبة من لغة الحياة ومشاعر الناس فيها. ومن الملاحظ أن الوشاحين الذين اتخذوا الغناء هدفا لمنظوماتهم الشعرية قد سمحوا لأنفسهم ـ في لون من التطور الطبيعي لموسيقى الشعر العربي ـ بالخلط بين البحور الخليلية من جانب وتنويع القوافي والتصرف في عدد التفاعيل من جانب آخر، بيد إنهم كانوا يلتزمون بالانتظام فيما يختارونه من أنساق إيقاعية لكل موشحة، ولعل هذا الالتزام أن يكون هو الحد الفارق بينهم وبين شعراء التفعيلة المحدثين الذين أباحوا لأنفسهم المزج بين البحور والعفوية في استخدام القوافي كيفما اتفق والحرية في عدد التفاعيل دون ضوابط.
ويرى بعض الدارسين أن هذا الموشح يجمع في تفاعيله بين الطويل والبسيط، وهو رأي أقرب إلى القبول من رأي آخرين يظنون أن الموشحات تتبع عروضا غير عربي يتصل باللغة الرومانثية الإسبانية التي كانت شائعة في الأندلس.