«السيدة»
في اللحظة التي تسقط فيها “ونغ سان سو كي” على الأرض الخشبية بمنزلها، وتنكمش ألماً على فراق زوجها الذي أحبته كثيراً، وأحبها هو أيضاً كثيراً، كان لا بد من كل المشاعر أن تأتي وتتألم أمام هذا المشهد الإنساني العميق في فيلم “السيدة” الذي يروي حكاية المناضلة البورمية العظيمة “أونغ سو كي”، ابنة “سان سو كي” المناضل ضد الاستعمار، كي تكون بورما حرة ومستقلة تبوح بسرها وجمالها وتقدم خيراتها للبورميين جميعاً، والدها الذي فقدته، وهي طفلة، في خيانة عسكرية.
في ذلك المشهد، حيث تتلقى “أونغ سو كي” ـ قامت بدورها الممثلة الكبيرة الماليزية “ميشيل يوه”ـ خبر وفاة زوجها، تبدأ الكاميرا بالتقاط الصورة تصاعديا من كتلة الممثل إلى الأعلى حتى أن تنكمش “أونغ” وهي على الأرض تنوح بحرقة؛ ليقول لنا هذا المشهد الكثير في أقل من دقيقة عن مدى الألم الذي تعيشه هذه البطلة المناضلة الكبيرة، فالبكاء هنا ليس على فراق الزوج فقط، بل هو يحوي أيضاً كل سيرة حياة هذه المرأة وما آلت إليه من تصدع ضخم، من افتراقها الطويل عن ابنيها، من فقدان أمها، من عزلتها في البيت، حيث كانت تحت الإقامة الجبرية ورقابة من جنود لا يفقهون شيئاً سواء تنفيذ الأوامر بشكل حيواني ووحشي، من فقدانها لرفاقها في النضال، حيث عجت بهم زنازين العسكر الذين يديرون البلاد بقبضة من حديد، وبسجل سيئ جداً في حقوق الإنسان.
أمام هذه المرأة التي تقدم سيرتها في السينما حالياً، لا بد من الإنحاء والاعتراف بعظمتها، وقوتها اللامتناهية، وإصرارها الكبير على الحرية والتحرر، وإيمانها بمعنى الحب والتضحية. فحين يكون الحبيب بحجم وطن فإن كل شيء قابل للتضحية، هذا ما قالته “أونغ” في الواقع، وهذا ما قدمه الفيلم بدقة عالية تلمس أدق التفاصيل التي ربما لم نرها في سيرة هذه المناضلة العظيمة، من سيرها بين الجنود القتلة ووقوفها المهيب أمام فوهات بنادقهم.
ومن المفارقة أن هذه المرأة التي كانت تعيش في سلام، وفي دفء الأسرة في بريطانيا، لم تقرر أن تعود إلى بلدها لكي تناضل، بل عادت إلى زيارة أمها المريضة في أحد مستشفيات بورما، لكن هو القدر حين يريد، وحين يقرر، وحين يختار، وحين يصطفي، كانت “أونغ” أمام خيار إما الوطن وإما العودة إلى دفء الأسرة، وهو ذاته الخيار الذي يطرحه عليها لاحقاً من سير الأحداث أحد قادة العسكر، بعد زمن من الإقامة الجبرية؛ خيار كان لا ثانياً له بالنسبة لـ “أونغ”، وهو الوطن، الذي يتوحد كل الشعب حوله وحولها كي تكون قائدة وملهمة، خيار حرض حتى الرهبان كي يأتوا في مسيرة مهيبة، وهم بزيهم التقليدي الأحمر، حفاة ولا يحملون سوى العصي، ليقفوا أمام البنادق والبيت المعزول؛ وهنا تطل “أونغ” بارتفاع يتجاوز حدود بوابة البيت، تقدم التحية للرهبان، وتتجمد اللقطة عند هذه التحية، كي تقول إلى أي حد بلغت هذه المرأة من حضور شخصي وسياسي وروحاني.
بين الواقع والسينما علاقة تقدم لنا ما لم نره أحياناً، وما غيب عنا، وما يراد له أن يسكن رؤوسنا، ويبقى أيضاً للسينما سحرها الفاتن حين تقول مثل هذه القصص التي كتبت على دفتر الحياة بكل نفس بشري، قصص تستحق منا كل الاحترام والدفاع والمؤازرة والترويج.
saad.alhabshi@admedia.ae