العتمة
تحدق في اللاشيء، نظرة ذاهلة ومقلة تتحرك يميناً ويساراً، إلى الأعلى وإلى الأسفل؛ كل ما تعرفه من المشهد أصوات النواح والصراخ وأنين الألم، حيث في مشهدها الطاغي عنف يئن فيه حتى الألم؛ ما زالت تحدق في اللاشيء؛ شعرها كث والغبار على وجهها من أثر انهيار كل الملامح من حولها؛ المنزل تحول إلى بقايا؛ لا تعرف أين الأب، أين الأم، أين الأخوة، أشلاء هنا وهناك، جثث، رعب، وخوف ووحشة، حب مقهور، ضائع، مشتت ويندب، فراق قهري، قسري؛ موت متوحش يدخل من كل مكان، يحصد الناس بلا هدى، بلا تمييز، شروق الشمس مخيف وغروبها أكثر، النهار مخيف والليل أكثر، هكذا كان مشهدها.
.
عبارة عن معنى حقيقي للفاجعة.
.
هي فاجعة غزة وفاجعة الضمير الإنساني واتساع لرقعة العتمة في منطقتنا العربية وفي معنى الأخلاق.
???في ما حدث وما زال يحدث من سفك مستمر للدم الفلسطيني، من استباحة لحرية الجسد وحرية الروح، من الهدم والتدمير لحياة هذا الإنسان الذي استلب منه وطنه وحقه في العيش بعزة وكرامة، يذهب طريق التقهقر في منطقتنا العربية إلى الانحناء نحو الهاوية، نحو مزيد من العتمة في مشهد الحياة.
فمع هذا القبح الإسرائيلي الذي لم يتوقف عن أن يمعن في زعزعة الحاضر والمستقبل في المنطقة، والتهديد والاعتداء على حياة ومصير الفلسطينيين عبر البلطجة العسكرية السافرة التي تودي بحياة الأبرياء وتهديم البيوت على ساكنيها، تشرّد وتقطع الأوصال والأجساد؛ مع كل هذا القبح تتواصل حلقة الفوضى والموت المجاني مع براميل المتفجرات التي يسقطها النظام السوري على شعبه، إلى القتلة والانتحاريين القادمين من ظلام التاريخ في العراق، إلى المشاهد السياسية المرتبكة في عدد من البلدان العربية، والصمت المخزي من دول العالم التي تقود ركب التحضر والديمقراطية تجاه ما يحدث من توحش إرهابي إسرائيلي على كل ما اسمه إنسان في غزة المنهوكة والمجروحة والمعذبة منذ زمن.
عتمة توشك أن تدخلنا في مشهدية رواية «العمى» لجوزيه ساراماغو (1992 ـ 2010) حين تنحط آدمية الإنسان بفقدان شخصيات الرواية قدرتها على الإبصار لتواجه مصيراً مزرياً ينتمي إلى ما هو أقل من عالم الحيوان، لينهار كل ما هو منجز حضاري على صعيد السلوك أو على صعيد التعامل مع مختلف المنجزات البشرية المادية والمعنوية، سقوط كامل في هاوية لا مخرج منها.
فما يجري في منطقتنا يقود إلى مستقبل مظلم، تعجل إسرائيل في جر المنطقة إليه باقتحامها السافر لغزة واستهتارها في التعامل مع الأرواح البشرية، وضربها بعرض الحائط استنكارات كل الشرفاء من أنحاء العالم لما تقوم به من فعل إجرامي في المطلق.
فمع هذا الفعل الإسرائيلي القذر، تتسع ثقافة الكراهية، وتتسع حقول الموت والإرهاب الذي يرتدي تارة عباءة الدين، وتارة عباءة المقاومة وتارة عباءة الدولة، لتغيب البصيرة وتغيب الرؤية ويغيب البصر، ولا يعود للحوار مكان، ويسود العمى.