قصائد موجوعة
في تقنية الانزياح يبلغ المجاز أقصى مداه، ويكون على المتلقي معاينة تداعيات الخيال الذي يعمل بقدرة فائقة لإنجاز الإبهار، كأن يصبح (الوجع) مسقطا من الشاعر؛ ليكون وصفا لقصائده في العنوان المستل من ديوان الشاعر حسن النواب “مَن للبلاد إذا دعتْه”، لكن الموجوع في النهاية وبمقياس الدلالة هو الشاعرالذي كتب هذه القصائد النثرية بطريقة الهايكو: أبيات قليلة تستفيد من التكثيف والإيجاز لتوصيل رسالتها.
وفي تفحص العنوان يتضح ميل شعراء الحداثة للعودة إلى الموروث بشتى أشكاله شعبيا او دينيا أو طقسا رمزيا أو أسطوريا، ولكن بتوظيفه في إطار النص وبرنامجه. حيث يستعير حسن النواب لديوانه عنوانا يحيل إلى الأدعية التي تردد في المناسبات الدينية موصولة هذه المرة بالبلاد التي تدعو منقذا ليخرجها مما وصلت إليه. لكن النواب يتماهى في سياق نصه الطقسي أو طقس نصه فيضع عبارات شعبية في نصوصه التي يبدو الكولاج (التلصيق) سمة أخرى لها، ويختم النواب ديوانه بعبارة “تم بعون الله والجنون والمنفى”، التي يمكن عدَها موجَها للقراءة بتأخيرها محاكاةً للمدونات القديمة، وفيها مفاتيح لقراءة نصوصه في ظرف كتابتها الذي هو جزء من شعريتها؛ فالجنون والمنفى هما محركان للكتابة في حالة الشاعر الذي ينتمي خطابه لرعيل من الشعراء المتمردين الذين يغامرون بتوجيه الصدمات للمتلقي ويقينه وما تكوّن في وعيه من مفاهيم عن الشعر. هنا تختلط المراجع فيحضرمثلا شعر رامبو وصور (التشابيه) التي تجري لإعادة تمثيل الأحداث المفصلية في التاريخ العربي، وتتكدس أسماء شعراء العراق الراحلين والأحياء. ولو عدنا لقصائد الهايكو المعنونة “قصائد موجوعة” فسنرى استثمار الشاعر لأقل مساحة نصية ليحشد علامات كثيرة. في اولى القصائد الخمس والأربعين القصيرة نقرأ: “ليست الريح/ من تهز أغصان الشجرة/ إنها شهقاتي على البلاد” وهي افتتاحية مناسبة لوضع القارئ في سياق الديوان الذي هو بكائية على البلاد كما يسميها، معيدا للوطن رنين اسمه الجغرافي المرتبط بشعور خاص، سوف يتيح للشاعر ـ في هذه القصائد خاصة ـ ان يبوح بكثير مما لا يقال عادة. لذا يتراجع مفهوم الوطن في قصيدة أخرى ليضيق مداه “أكثر بلاد تستحق التضحية/ العائلة”، ولا يمكن تحديد دلالة هذه القصيدة ليس لأن بنيتها مكتفية ببيتين فحسب، بل لأن الشاعر يعلن يأسه من بلاد واسعة وممتدة في الشعور ليقبل بتصغيرها في العائلة. يستذكر الشاعر زملاء الصعلكة، فيرسم لهم البورتيت الشعري ضائعين في ملكوت قصائدهم، ويخص الموتى منهم بنصوص مؤثرة مثل جان دمو وكزار حنتوش.
وفي موضوع الغربة يكتب الشاعر معترفا بمأزق المغترب وصدمته وندمه “في البلاد /كنا نذرف دموع الغربة/ وفي الغربة صرنا نذرف دموع البلاد”. في مثل هذه القصائد لا ننتظر الإبهار بكتابة النص اللغوي المنغلق على أدواته، ولكن عبر بساطة آسرة جعلت الألفة قائمة بين النص والقارئ، وأعطت الشاعر حرية أن يكتب وزنا ونثرا دون قيد مسبق أو ارتهان بشكل محدد.