عندما تقفل أبواب منزلك وتغادر في سفر طويل وإجازة لمدة تتجاوز الأربعة أسابيع وتعود بعد الإجازة إلى البيت الذي هجرته متلفحاً وجهك فوهة اللهب المنبعثة من موقد النار تشعر بقيمة التكييف وقدر الذي فكر وبصر واخترع هذا الجهاز السحري العجيب. فلنتصور أنه لولا وجود هذه النسائم الهوائية الباردة فكيف سيتبدد العالم؟ وكيف تصير عليه صحراؤنا المترامية ؟ وكيف تزدهر الأمكنة التي أصبحت الآن جناناً خالدة ؟ كيف ستعلو سيقان الإسمنت الرهيب؟ كيف سيعيش الناس العبقرية البشرية التي أبدعت عندما اخترعت النعيم؟ إنها تستحق الإجلال والتقدير والخلود في ضمائر الناس من دون النظر إلى العرق والدين واللون. لو فكر أحدنا بهذه المفارقة لاستغنى عن الحقد وتلوين الناس حسب انتماءاتهم العرقية أو الدينية. لو فكرنا بهذا الفارق الرهيب الذي أحدثته العبقرية البشرية، وأن الإنسان لا يقاس إلا بما يقدمه من خير للإنسانية، وما يبدعه عقله المتميز من معطيات تسعد الناس جميعاً، وتقدم لهم فرص العيش الرغيد لمجرد أن شخصاً فكر بأن يهدي العالم أجل ما يملكه من ملكات عقلية رائعة. . «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً». هؤلاء القتلة والجبارون والباطشون الذين يقتلون النفس البريئة بدم بارد، ثم يكبرون ويهللون وكأنهم يقدمون الأضحية ليوم البعث. هذه فظاعة الحياة تنبري جلية عندما نقارن ما بين القاتل الفظ والمدافع عن الحياة بجهده ومثابرته وإبداعه واختراعه. حضارة تتآكل وتهشم بأيد ذميمة ونفوس لئيمة وعقول أثيمة لا تراعي حرمة روح بشرية ولا قدسية حياة. حضارة اليوم تنهار بفعل عار الذين تورمت ذواتهم وتلاشت ضمائرهم في صقيع أيديولوجيات يائسة عابسة لا تنبس إلا بالحقد والكراهية وتدمير كل ما هو جميل ونبيل في تاريخ البشرية. عندما نقرأ المشهد الإنساني بتمعن وتفحص نجد أن الحياة على كف كائن متوحش يذهب بها إلى غابة الغطرسة والتزمت والتعنت، ويأخذها إلى حيث تنتهي الأشياء إلى العدم أو العبثية. عندما نشاهد المسلسل الدرامي الدامي على وجه الكرة الأرضية نشعر أن الحقد قد أعمى المثقف والمفكر السياسي كما أعمى الجاهل والمتخلف، فالجميع سيان، يذهبان بالكون الإنساني إلى جحيم النهايات القصوى، يأخذانه إلى مدارات بتيارات غامضة أكثرها وضوحاً الموت المجاني. نرى نيرون يحرق أكثر من روما، وراسبوتين يفتك بالملايين، وشجرة الدر تضرب بالقبقاب، ومدناً وقرى تحرق وتسحق وتمحق وتسرق، والبشرية تعد قتلاها وضحاياها. إن الإبداع سلاح ذو حدين فإما مهند للقتل، أو نهد للعطاء ومهد للسخاء، ووعد لإضاءة كون الناس بنجوم الفخر والانتصار على عواقب الطبيعة. فجهاز تكييف واحد في غرفة واحدة، من الممكن أن يضيء لنا فكرة، ويقودنا إلى العيش بهناء، والتفكير بجدية بما هو مجدٍ ومحقق لآمال الإنسان، وضامن لحياته من دون صهد أو معوقات أو مكدرات، فتكييف واحد في عز اللهيب الخارجي يفتح لك أفق التفكير من دون إحساس بتأنيب ضمير الجدران الملتهبة، وتكييف واحد يكفي لأن يعطيك موعظة لمدى أهمية أن نغسل ضمائرنا من الحقد لنبني عالماً يعيش بلا لهيب ولا تعذيب.