واحة الأدب
وبعد طريق جاف طويل، طريق متعب مجهد في رحلة صحراوية، يجد المسافر أمام البصر واحة، وعلى صوت خرير الماء يمضي إليها ليلقي بتعبه في وادٍ جارٍ وفي شجرة وارفة، ليستريح ويستعيد طاقته، وبعد استرخاء الجسد يستعيد القلب سكينته. وفي السكينة تصفو الحياة. لذلك دوماً يوصف الأدب بأنه واحة. وهو كذلك في صحراء الحياة؛ في الخارج ضجيج، وحياة ضخمة لكن ناقصة أبداً. حياة كلما أمسكت فيها ببريق أمل تراءى أمام عينيك حتى تمتد خناجر إحباط كثيرة من حيث لا تدري فتمزق قدرة البصر على رؤية البريق. وحين تزكمك رائحة غبار الطريق المتربة، ولا تعود قادراً على استنشاق عبير الورد رغم إمساكك بالوردة، وتفقد القدرة على سماع صوت زقزقة عصفور يقف على نافذتك حين تصم أذنيك أصوات صراخ أطفال وعويل ثكالى ونحيب أرامل في أرجاء كون لا يكف عن إعادة عرض المشهد الدامي ذاته حتى لتوشك أن تظن أنك في صالة مسرح وأن كل الحياة مسرحية، وأنك فقط مشاهد تجلس بهدوء برغم ضجة الأحداث على الخشبة. فتختلط المشاهد، وتتداخل الحقائق، ثم تعود لتسأل من تكون، وتضل الطريق إلى نفسك، وتبحث عنك، وتنظر في المرايا، فترى كل شيء، ولكن لا ترى شيئاً.
وحين تفقد القدرة على رؤية نفسك وتذكر من تكون، وماذا كنت تريد في بداية الحياة، وأين كنت تريد الذهاب، وأي الطرق كانت الأحب إليك، وماذا كانت أكلتك المفضلة، ومشروبك المفضل، وأي أطفالك الأذكى وأيهم لا تعرفه، وأين يذهب بك الباب الجانبي المؤدي إلى حديقة الدار، وكيف تكون الحياة وأنت نائم وحين تنام، ماذا ترى وهل ما زلت تتذكر أحلامك، وهل ما زلت تحلم، وهل الحلم ما تراه وأنت نائم أم حين تنهض، وأين الخطوط الفاصلة بين النوم واليقظة، بين الغفلة واليقظة بين البحر واليابسة، وهل لو مضيت قُدماً إلى حيث بحر ستظل على سطحه تسير أم ستغرق، وهل ستحتاج لأحجار في جيوبك لكي تتأكد من الغرق، أم ستكفيك صخرة القلب المثقل التي تكونت وكبرت ونمت في عز صراع الحياة الذي أتيت إليها بريئاً من كل الخطايا ومقبلاً على الأمل فاستقبلتك بالصد وأبواب حجر صلد وصفقت في وجهك بوابات الحلم والأمل وأنت مقبل نحوها مثل طفل يجري مبتهجاً إلى بائع الحلوى وما أن يصل إليه حتى يختطفه ويقتل براءته؟.
وحين تبحث عن البراءة والمحبة والصفاء والوفاء والإخلاص والهناء وتجد أنها مجرد أسماء إناث مدونة في شهادات ميلاد ضمن أوراق كثيرة تطوّق الإنسان منذ صرخة إعلان دخوله الأولى حتى يتوج بورقة خروجه، وغالباً تكون ورقة معفّرة بقصة حياة حزينة لم تعرف سوى وهم الفرح في فترات متقطعة.
حين تشعر بكل ذلك وتصل لكل ذلك، اذهب إلى واحة الأدب، إلى أعظم ما أنتجه العقل البشري، إلى جنين الروح الإنسانية الذي أخرجته في عملية ولادة عظيمة سبقتها مخاضات كثيرة متواصلة متسلسلة حتى تلد جنيناً بهيّاً يعيد الأمل، ويبتسم، وحين يتبسم تشرق الشمس في قلبك ويتألق القمر، ويتطاير الغبار لتصفى روحك. هو الطفل الذي لولا ولادته لأصبح العالم مجرد أجيال بائسة تحرث في طرقات لا تصل.
إرم بروحك التي تآكلت وبقلبك المهترئ في أحضان كتاب أدبي، واقرأ قراءة العائد إلى الحياة بعد موت محقق، ودون أن تدري كيف ولماذا ستعيد تلك الكلمات إليك الرؤية وتعيد إليك السمع وتعيد حاسة الشم والتذوق وحين تنهض إلى المرآة سترى وجهك. وسيغدو كل شيء محتملا.
Mariam_alsaedi@hotmail.com