الطبيعة والموسيقى
الماء والموسيقى إذا ما حضرا في روح المكان، لابد أن يقدما لوحة رائعة ساحرة، فخرير الماء المتدفق وحده يعزف مفردة الحياة وينبئ بالأحلام، ويجسد الأفكار المبدعة لدى عشاق الفنون، وكذلك صوت الموسيقى ما إن تناغم مع صوت الماء حتى تغلغلت في روح الحياة وزها بها نحو عالم من الخيال المتجسد بالمكان روعة وسحرا يتلمس أجمل المقطوعات عزفا، فحال الموسيقى لا تنبثق بعيدا عن الطبيعة الساحرة، وهذا على مر العصور.
والخاصية تبدو من عزف وعازفين لا يحبذون العيش بعيدا عن أحضانها الدافئة، فجمال الروح دائما ما يستوحى من المروج الخلابة، ومن تقاطعات الماء والضوء، وأحيانا حتى الظلام والسكون مؤثران، فيستشف الموسيقار إبداعاته من حالة البحيرات الساكنة الهادئة ومن مزج الطبيعة السحري مع الجبال الخضراء المبتلة روعة، ومن عزف المطر مما يدفع الموسيقار لصياغة أجمل الألحان.
إنها الطبيعة وسحرها الخلاب الممتزج بالإبداع البشري، والذي من شأنه أن يلامس شغاف الحياة مبتكراً لها لغة الفنون من عزف موسيقي وتشكيل وشعر.
فموزارت ابن هذه الطبيعة الساحرة وفضاءها حين أنجبته على أطراف سالزبورغ النمساوية وبالقرب من “موند سي”، وهي بلغتهم تسمى بحيرة القمر، فلا يمكن أن لا ترصد الطبيعة والبيئة التي تغلف الفنان وهي الملهمة الأولى حين تبث في روحه سلّما موسيقيا أو أوركسترا من نبع أجمل الفنون الكلاسيكية، وحينها لم يكن قد تعدى الثالثة من عمره، ورغم أنه تلاشى من الحياة سريعاً وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وكأن المرض فتك بإيقاعات مختلفة من الفنون والسيمفونيات التي لم يسطرها، إلا ان حقبة التاريخ تشهد له أجمل الأعمال.
ولم يكن بيتهوفن بعيداً عن حالة موزارت، فهو مولود في مدينة بون الجميلة، مدينة الأزياء والمسارح والفنون، ووفاته أيضا كانت في أحضان الطبيعة الخلابة.
فمدينة فيينا العاصمة الجميلة للموسيقى والطبيعة وهي منتشيه بأعمال العديد من الموسيقيين، ويكفيها بيتهوفن سيد أساتذة الفكر والألحان، ويتشابه مع موزارت بالطبيعة والمرض الذي أفقده سمعه في الثلاثينات من عمره، إلا أنه قدم خلاصة أعماله الإبداعية من الموسيقى الرومانسية وألحانها.
وحضرت الموصل العربية بموسيقى نهر دجلة المتموج من شمالها الى جنوبها راسماً آلة موسيقية جميلة منحتها للمبدع العالمي زرياب الذي نبع من التلال والهضاب وتغلغل صوته إلى الأندلس ومنها الى الغرب، ولا ننسى اسحق الموصلي فالطبيعة لا تكتفي برسم الجمالية أمام ناضريها، بل تعمد الى خلق طبيعة بشرية مبدعة ترصد الفنون وتتوجها بالجمالية الفطرية، فالإنسان مصدر الإلهام ومتلقيه في آن واحد وتجد التشابه في الرحيل عند زرياب من الموصل الجميلة إلى الأندلس ولدى بيتهوفن من بون الساحرة بطبيعتها إلى فيينا المطوقة بجبال الألب، فالطبيعة لا تترك محبيها من الفنانين المبدعين، بل تتعانق معهم عناقاً موسيقيا منفرداً وجذاباً.
.
عناقاً يورف الحياة بصوت الروح ولغة العشق وهي لغة الأساطير عبر العصور.