تفكر فيها.. تفكر في الرجوع إليها، تستدعي المواعيد السابقة وأيامك وأحلامك، وسهدك وسغبك وتعبك، وسهرك ولياليك على حصير البلل الصيفي، أو ملاءة الصوف الشتوية المغسولة بالندى.. تفكر في الرجوع إليها بشوائب القلب وخرائبه، بما استفز وحز وجز، وزلزل وخلخل وجلجل، وبلبل ورتل وتبتل، وجندل وسربل، وغلا وتغلغل وتوغل.
تفكر في الرجوع إليها بعواقب قلب وبما هشم وحطم، وأبهم وأدغم وأعدم وأقدم، وأصدم وحزم وأجزم، وزاحم وساوم وقاوم.
تفكر في الرجوع إليها، لعلك ترى ما يراه النائم ساعة حبور السريرة، وتستدعي الصورة المثلى والملامح والملاحم واللواعج والتوهج، وإشراقات الصباح التي كانت تسرق من قرص الشمس إسواراً ذهبياً تطوق به الأفق، وتكحل به الحدق، وتبتسم للحياة بطفولة عفوية عفية شفية رضية، راضية مرضية تغدق في كل يوم، في كل ساعة بأشواق المحبين، وأيام الناصحين الناصعين، ببياض الموجة، المزخرفين بزرقة الماء، بقلوبهم الملونة بلون العشب وأوراق اللوز، وزهد الجياد الواثبات إلى الغد بخطوات الثبات.
تفكر في الرجوع إليها، وفي قلبك صور وحوار ودوار وأسرار وأخبار، وبحار وأنهار، وأشجار لم تزل تتفرع وتترعرع رغم العشب الأبيض النابض والرابض في حقل الرأس وبستان اللحية الكثة، رغم كل ذلك، إلا أنك متمسك بالرجوع إليها، لأنها لم تزل رغم البعد تسقي جداولك، وتقفص جدائلك، وتمنحك الفرصة لأن تقبل وجهها ورأسها، وتنحني ضارعاً خاشعاً خانعاً متهجعاً، وتقول لك في رسائلها “أيها الشقي، لقد شاب رأسك ولم يشب قلبك، فارجع واستمع لصوت البحر، لوشوشة الموجة، لخشخشة المحار، وشقشقة القواقع الهاربة من حرقة الرمل إلى زرقة البحر، وتقول ارجع واسمع، فاللوزة القديمة في فناء البيت لم تزل تلف عصافيرها بقماشة الأخضر، وتطعم الصغار بثمرات الإشراقة الصباحية، وكذلك طائر النورس، رغم تلاشي سواحل “العومة”.
تفكر في الرجوع إليها، والنداء الداخلي يصحبك إلى طرقات وطرائق وحرائق، وبعد طول انتظار، وبعد حوار ودوار، تذهب وتقف في هذا الزقاق وذاك المكان، فلا تجد من صورك القديمة غير ظلال باهتة، وهمية عدمية وبلا جدوى. فلا الأصدقاء أصدقاء، ولا الأمكنة هي الأمكنة، فكل الأشياء غيرت وجوهها وملامحها، فالتواصل مع صديق يحتاج إلى مواعيد تتحدد مسبقاً، وإن التقيت بمن تريد يكون اللقاء غريباً، ذاوياً خاوياً من الحنين، وصور تلك السنين.. والأشياء لا تشبه نفسها، ولا تشبه ما يجيش في خاطرك، فتقتنع أن الأصدقاء كالجبال التي حفرت خنادقها في أحشائها، كالسواحل التي أكل رملها من لحم البحر، وما عاد يكفيك أن تختبئ في ثنايا الحنين، وتسترجع ما لا يرجع، وتستدعي ما لا يقبل الدعوة لأنه يغط في غياب السفر الطويل.. الطويل.. وأنك إذ تطلب صديقاً فإنك تطلب المستحيل.
marafea@emi.ae