يعزى للإغريق الكثير من البدايات المتحضرة في تاريخ البشرية، حيث تدين الإنسانية للحضارة الإغريقية بالكثير من ما هي عليه الآن من تمدن، سواء على صعيد الفنون والفلسفة والفكر والشعر حتى الرياضة، حيث اعتنى الإغريق بالجسد بشكل خاص واحتفوا به من خلال حضوره البارز في المسرح والفنون وخصوصا النحت، حيث أبدع الإغريق كثيرا في نحت الجسد وأبرزوا أعلى تجسده الجمالي، وكذلك في الرياضة من خلال ما اصطلح عليه الألعاب الأولمبية التي تستمر حتى اليوم، لتقدم تلك الرياضات الأولمبية الجسد بكل حريته وتناسقه وقوته والحضور اللافت للقيمة الجمالية الحقيقية حين يؤدي تلك الألعاب ويتنافس في ساحة مفتوحة وحرة تقبل الانتصار كما تقبل الخسارة بروح رياضية تنافسية عالية وسامية، حيث في تلك الألعاب التي يأتي إليها البشر بكل أطيافهم، بألوانهم الصفراء والسوداء والبيضاء والشقراء، بألسنتهم المختلفة، يقدمون بجماليات وتناسق أجسادهم فعلا رياضيا عالي الجمال، وخاصة في رياضة ألعاب القوى، اللعبة الأصل واللعبة الأولى في منافسات الأولمبياد، حيث يطلق عليها أم الألعاب، فألعاب القوى هي اللعبة التي تجسد أكثر من غيرها الحضور العالي للجسد، والاحتفاء به بشكل لائق، منذ البدايات الأولى لهذه المسابقة، فبمجرد الالتفات إلى مدرجات ميدان ألعاب القوى، حيث الحضور الطاغي للجماهير التي تتجاوز أعدادها عشرات الآلاف يوميا على مدار فعاليات هذه المسابقة، ندرك جيدا مدى التقدير والاحترام للجسد، وهو يؤدي دوره التنافسي البطولي في العدو القصير والطويل، في القفز والرمي، مع مؤازرة دائمة من الجماهير الغفيرة التي تختلف تماما عن جماهير الرياضات التنافسية الأخرى، حيث ينتمي الجمهور في هذه الرياضة إلى التنافس السلمي والشريف، بعيدا عن التعصب، تصفق للفائز الذي حصد الذهب، كما تصفق للخاسر الذي لم يحصد أي شيء سوى شرف الحضور وإتمام المشاركة. وبقدر ما تحتفي المنافسات الأولمبية التي تستمر حاليا في العاصمة البريطانية لندن، بالرياضيين القادمين من كل قارات العالم كي يتنافسوا على حصد ميداليات الذهب والفضة والبرونز، في إطار شريف ونزيه خالٍ من كل أمراض الشعوب المتمثلة في العنصرية، والعداء والكره والتحزب، إطار مليئا بالإصرار على اللقاء والتواصل والتوحد في مجال جميل من الحياة وهو الرياضة؛ تحتفي الأولمبياد كذلك بالجسد وهو في أفضل حلته، منطلقا وحرا من كل القيود التي تحاول أسره وتجعله بلا قيمة وتفصله من التكامل والحضور مع الروح والنفس. يشكل حضور الجسد في منافسات الأولمبياد الفردية تداخلا مع بعض الفنون كالمسرح الإيمائي والرقص، وقوة تعبر عن نفسها بلغتها الخاصة من خلال الرياضة التي يؤديها هذا الجسد في حقله، حيث تغيب لغة الكلام تماما في هذه الألعاب، ويتواصل المتفرج مع الجسد بالنظر والمخزون الثقافي للفعل المؤدي على مضمار او ميدان اللعبة الرياضية التي يختمها اللاعب بالرقص أو البكاء أو الصراخ فرحا بإنجازه. ويأتي الاحتفاء بالجسد من خلال وعي وثقافة عالية تقدر قيمته، ولا تلغيه وتنفيه وتفنيه من مشهد الحياة، كما يؤسَسَ ويبنى الجسد من خلال فهم علمي بهندسته وحركته، وكذلك فهم فلسفي لمعنى وقيمة الجسد في الحياة، والقدرة الخارقة لحريته في التغيير. saad.alhabshi@admedia.ae