السجناء في قفص الأفكار هم الضحايا الحقيقيون. الذين مهما أطلقتهم في الأرض يظلون مقيدين بسلاسل الخوف، لا يتقدمون إلى حلبة المغامرة حتى لو دفعتهم دفعاً، ولا يتراجعون أو ينحنون للنبش في ركام الماضي لاستخراج الكنوز القديمة ونفض الغبار عنها لتلمع من جديد تحت شمس الحاضر. ومن تسجنه الفكرة ينسل إلى جسده مرض (التردد) فلا يعود يعرف هل يفتح باب عقله أم يغلقه. وحين تناديه الناس بكلمات جديدة، يحاصره الخوف من المعنى المختلف، ويتسلل الارتجاف إلى ركبتيه فيفضل الركون إلى الزوايا والاختباء في الظل. لكن الظلال، وان واستنا في النهارات الطويلة، فإنها تختفي وتهجر أصحابها حين تمتد عتمة الليل وتنتشر في الزوايا. وساعتها ما من نجاة للجبان سوى خلع قميص الحيرة، والتعري تحت شمس المعرفة التي تشرق برّاقة من القلوب الحرة وتبث كلماتها إلى العقول التي انتظرت طويلا أن ترى النور يبزغ من آخر النفق ويكبر بالتدريج حتى يصل إليها. السجناء أمام الشاشات بالساعات هم الضحايا المغيبون في نعيم التكنولوجيا. تنشل ألسنتهم وتجف حلوقهم في الصمت العظيم حين يصير نطقهم بالأزرار، وتكون كلماتهم مرئية لكنها بلا صوت. وقد يتصافح اثنان في الرقعة العنكبوتية، وقد يتعانق غيرهما، لكن أجسادهم لن تشعر بالدفء يوماً. هؤلاء الذين يملكون آلاف الأصدقاء في (كتاب الوجوه)، هم أموات في الوجود الحي ولا يراهم أحد، لكنهم أحياء في الوجود الرقمي لا يكبرون ولا يهرمون مهما تبدلت صور اليوم والأمس. وقد يتخلى كثير منهم عن أصدقائه المقربين، ويعوضهم بأصدقاء وأسماء وهمية كثيرة ولا تحصى ومن كل البلدان. ولكن في أي جغرافيا يعيش هؤلاء وهم لا يرون الغيمة حين تعبر مغرورة بحمولاتها لتهطل فوق منابت الشوك، ولا تهزّهم ريح الشمال، ولا ينذرهم المطر للاختباء. السجناء في وهم المستقبل هم ضحايا أيضاً، أولئك الذين تكون حياتهم مجرد انتظار لما سيأتي، تراهم كل يوم يقفون منذ الصباح على عتبات المحطات المهجورة يدفعهم الشوق إلى الخلاص من ألم الحاضر ومعاناة اللحظة. لكن القطار الذي ينتظرونه كل ساعة لن يأتي أبداً. وقد يسبقهم من ركبوا قطار الماضي ونحتوا أسماءهم في الجدران والكهوف. وقد يرون بأعينهم فرسان الحاضر وهم يصلون إلى خطوط النهايات البعيدة، وقد تصل السلحفاة أيضاً، بينما هم منتظرون كالأصنام. قد يتعثر الأعمى سجيناً في العتمة الأبدية، لكن ببصيرة قلبه يمكن أن يقرأ الكون ويعبره أفقا أفقا. وقد يجوع المحتاج سجينا طريحا في الفقر، لكن سرير الرضا يشفيه، وقد ترفعه غيمة القناعة ليطل أعلى من رؤوس كثيرة منحنية وهي تعدّ لقمة الطمع من غير أن تشعر بجريان العمر وفناء صاحبه وراء سراب الخلود. الحرية تبدأ أولاً في القلب على شكل نور ثم تكبر في العقل على شكل كلمة (الحب) ثم القلب والعقل يجتمعان فتموت الفوارق ويعانق النقيض نقيضه والشمس والقمر يضحكان akhozam@yahoo.com