لو كانت الأرض كلها ملكا لرجل واحد لاستراح البشر. لكنها مشاع منهوب، لقمة تدور حول بهرجها الضواري ويتطاحن على وهم نعيمها جوعى الملذات. اولئك الذين طردوا الوحش من مكمنه السري وناموا مكانه، يتربصون بالآخر الغريب والعابر والمجهول قبل ان يطول ظله ويصير نسلا. ولكي لا يقاسمهم أحد في الدفء والنبع والمتاع، ابتكروا لأنفسهم التحصن في الفكرة الواحدة. ولكن قبل اكتمال نعيمهم في الكنف الواحد، سيدركون أن الينابيع تجف إن تأخر السحب، وأن النار تخفت وتستكين رمادا قبل انقضاء السمر. وأن السعي في المناكب هو ما يضمن للآدمي قوت بطنه وعقله. لو تثبت الريح على هبوب واحد لاستراح البشر. لكن طبعها لعوب، تتمايل في رقصة الفصول منداحة أولا من جهة الشتاء تحمل بردها وقرصتها لتسلخ جلد الفقراء والمشردين وتقتلع الأشجار من الواحات والميادين. يزأر لها البحر، وهي تمر مختالة بقبعة الغمام السوداء، فستانها الشفّاف مطر طويل، وغناؤها أزيز فيه رعد بعيد وبرق. وقد يصادف ان تختفي الريح صيفا، يجف حلقها تحت سياط الشمس فتغمض عين العاصفة ولا تعود ترانا ولا يراها احد. وحين يطل الخريف برأسه الذهبي، تظل الأشجار تنادي الريح من بعيد لتغسل جلدها من الاصفرار، فيحل الاخضرار، ويحمل الربيع ريشة ألوانه ليطبع قبلاته القزحية على خد الوجود الضاحك. وقد تكره الناس البرد وتضجر في الخريف، لكن الابتسامة تعود الى الشفاه كلما تفتّح الورد وفاح بعبقه في كل اتجاه. لو يستقر البشر على حقيقة واحدة لاسترحنا جميعا. لكنهم متقلبون طبعا، متناقضون تطبعا، يتجمهر الرُعنُ في طوابير الكلام على بوابة الحكمة المقفلة في وجوههم. أفواههم مزبدة من كثرة الرغي الأجوف والاختصام مع الجدار والنسمة. لا يرون سوى الجانب الضيق من المعنى لان قلوبهم أعماها الوهم الذي اسمه (الأنا)، وآذانهم أصمها طبل الصراخ الفارغ. وبوابة الحكمة لا تفتح الا لمن ظلوا طويلا يقلّبون صخرة المعنى لاكتشاف المفاتيح السرية تحتها. والناس ينفصمون اذا انفلقت الفكرة في رؤوسهم، فتتحول عقولهم الى حلبة مصارعة بين الخطأ والصواب، فلا يعرفون بعدها يحتكمون لمن. وقد يسكن الجنون أمما وهم يظنونه عقلا، وقد يستباح دم الحقيقة على مذبح العناد والناس تصفق ظنّا انها معبودة الشرّ. لو يظل القمر بدرا مكتملا لاستراح البشر. لكنه يختفي ويوارب ويشعّ متى يريد، يهتدي بهلاله الراحلون في صحاري المتاهة وهم يبحثون عن الخلاص من عتمة المجهول. وانتِ، لو تنظرين ناحيتي مرة، تولد الدنيا قصيدة. يصهل الرهبان في الكهوف باسمينا مَلكان نحمل دلو نور لا ينضب. ولكن ما حيلتي لو ارتفعت الجبال دونك حد السماء، واهتزّت معابد العشّاق وانتِ تمرّين حافية فوق المياه. كان الناس على جسر نازلين حين التقيت بوجهك في مرايا خضراء مخبوءة في الطبيعة، وكان حلما ان تنحني الظلال تحت شمس عبورك فوقنا. يا قمرا نظل نناديه كل ليلة، وهو ينأى في بعيد الأمل. كل الأرض متسع لغيري الا قلبكِ..صحراء الهلاك الناعم akhozam@yahoo.com