هناك مدن لا تليق بها "البهدلة"، براغ مثلاً، مدينة زاخرة بالثري والقديم والعتيق من الأمور، كانت رائدة في المعرفة وابتكار الأشياء، تكفيها جسورها الكثيرة للتواصل، وتكفيها مبانيها التي خلقت لتبقى، وتذكر الأجيال.
كانت تمد سيطرتها وتحكم ما حولها، كيف لها أن تخضع لسيطرة الدب الروسي لزمن، ويأمر مواطنيها أن يكدوا منذ الصباح ليناموا مبكرين بعد المغرب تماماً، ويمنعها من الأصوات المتعددة، والموسيقى المتنوعة، ويطارد مبدعيها ليضمهم لحزبه الواحد والشامل؛ لذا كان تململها مبكراً.
وقبل أن تتقشر جلدة الاتحاد السوفييتي، وفي عز حكم الحديد والفولاذ، فكان ربيعها، "ربيع براغ" نفيراً لشعوب الكتلة الشرقية، وفجراً للمواطن أن يبقى حراً، له لغته، وأدبه وثقافته، ومعنى لتاريخه كيفما يحب أن يعيشه، تزورها اليوم، وهي تغفو على صباحاتها التي لا تختلف عن صباح أوروبي، ولها مساءاتها العابقة بالموسيقى والغناء والرقص في العراء، خالية من الانضباط العسكري، واللون الخاكي، وزوار الفجر، وتلك الصحف التي تطبع متأخرة بعد إذن الرقيب، ومزينة بصورة الأمين العام للحزب، وتلك النبعية الصامتة للدب الثلجي القابع في موسكو.
براغ اليوم متعافية، تلحظها من وجوه الناس، وتلك الابتسامة التي تعني للعملة التشيكية الكثير، وأفواج السياح الذين يتقاطرون على المدينة المليئة بالسحر والأسرار والمتع الكثيرة، ولأول مرة تدخل العملة لجيوب المواطنين دون أن تتسرب أو تحتفظ بها الحكومة الوصية كجدة تريد أن تعيش كثيراً على نفقة أحفادها، اليوم براغ فيها تمثال لكافكا كاتبها الذي كان ممنوعاً من الصرف فيها، ومطارداً في مدن الضباب، وغابت عنها تماثيل لزعماء لا تعرفهم، مثلما ذلك النصب العملاق لستالين الذي يحتل جبلاً وحده، اليوم مكانه بندولاً زمنياً رمزياً لسباقهم مع الوقت، وغابت الألوان الرمادية من الجدران، ونهرها "المتوحش" يسير بإيقاعه دون أن تكون هناك جثث للمواطنين يسوقها إلى نهايات مظلمة، والنساء عدن لتبرجهن الأنثوي، ونزعن عن كواهلهن خشن الثوب، وما عدن يخشين أن ينجبن للوطن أطفالاً يعرفن أنهم لن يجندلوا في ساحات الحروب البعيدة والمجانية دفاعاً عن مطرقة ومنجل لا يحصد إلا النفوس البريئة.
عادت الأبهة الملكية، وإرث عائلات تاريخية حفرت علاماتها للوطن وحده، وأن خريطة الوطن الواحد، إن لم تكن منحوتة بضلوع الحب ومعنى الولاء لن تكون خريطة مقاومة، وأن رياح التفرق ولو كانت غير عاصفة ستمزقها من هبوب ليل قصير، اليوم والمكان براغ.
اتأسى على بلد بلطيقي زرته ذي صيف، ولم أجد إلا تاريخاً مستلباً ومسروقاً عن غفلة من أبنائه، وموزعاً على جيران يحدونه جغرافياً، بلداً خالياً من أي تمثال لوطني أو زعيم تاريخي أو مفكر عرفه العالم، وعرّف العالم بوطنه، أتذكره الآن، والآن أكثر والقدم في براغ في وقتها الجديد، وتاريخها الذي يسطره أبناؤها فقط.
amood8@yahoo.com