ليل الحقيقة ونهارها
أين تنام الحقيقة ليلاً ؟. حين يسكتُ فم المذيع بعد نهارٍ طويلٍ من المراوغة. وحين تُقفل الميكرفونات وتذهب الألسن للاستراحة بعد معركة التُهم. هذا يؤكد والآخر ينفي والمتفرج يتلفّت بينهما مثل المجنون، ولا يجني في النهاية شيئا سوى المزيد من الحيرة، والمزيد من السباحة في الفراغ. وأين تنام كلمة (الحرية) بعد أن تتلاعب بها الأقلام؟. هذا يكتبها بالدم على جدارٍ متهالكٍ ويموت معها. وآخر ينقشها بلون البارود على جثث ضحاياه. وثالثٌ، لو منحوه الحرية، يسجنها بفعله وقوله، وقد تفطس بين يديه. والموهوم هو من يظن الحقيقة ملكا له وحده، فتراه يذهب للمصافحة وفي قلبه نية الفتكِ إن اختلف معه أحد. والمخدوع هو من يظن الحقيقة ما يقال له تلقيناً وحفظاً، وليس ما يدركه بحواسه وعقله، وهذا طامّة الأمم. والدجّال هو من يعتلي منبر الخير، وينطق باسم الحقيقة وهو يقصد ضدّها، والجهلة هم من يصدّقون الظاهر والسطح من غير تحليل او سؤال أو حتى تقليب الأمور قبل الإيمان بها. وما يحدث يوميا هو الهيجان العظيم للبشر في لعبة الحقيقة. منذ الصباح يخرج من الشرق نبأ اقتتال اثنين اختلفا حول معنى الشمس، وفي الظهيرة تنشب الحرب بين عائلتين من جذرٍ واحد كلتاهما على خطأٍ في الصواب، وعند العصر يتكثف الدخان فوق الأقاليم، هذا يسميه السحابة والثاني يسميه الظلام لكنه مجرد فراغ تذروه الريح في الزوال. وفي المساء هذا يرى النجمة تبتسم، ويقرأ رقصتها على صفحة الماء. وذاك لا يراها أصلاً لأنه يفتش عن انعكاسها على صفحات الرمل.
لا تقبل الحقيقة القسمة على اثنين، ومن هنا يبدأ الصراع على امتلاكها. يخرج الفيلسوف علناً في الظهيرة، ويقول إن الحقيقة هي ما يتغير، وأن الجماد وهمٌ، وأن بقاء الاشياء على حالها مجرد سفهٍ وعُته. لكن المتحجرون قد يرجمونه عظة لأنفسهم. ثم يأتي الشاعر مجملا الوجود بوصفه الحقيقة أنها امرأة تخرج من المرايا لتصير صورة كل النساء. لكن الأوصياء على الفضيلة يكذبونه، ويزجون بأوراقه في المحرقة. ثم يأتي الرسّام في يده وردة حمراء، فيتهمونه بالانغماس في الدم. وفي دورة الكلام والرمز والإشارة يتلون وجه الحقيقة مخلوطاً بأقنعة الوهم، وتسقط جرّاء هذا عقول بشر كثيرين.
طهّر الكلمة من شوائبها، وسترى أن قلبك يهتدي للحقيقة كلما نطقت بصدقها.