حصل الفيلسوف الألماني المشهور يورغن هابرماس على جائزة شخصية العام الثقافية ضمن جائزة الشيخ زايد للكتاب، «تقديراً لمسيرته الفكرية الحافلة التي تمتد لأكثر من نصف قرن».
تكوّن يورغن هابرماس في الأصل في مدرسة فرانكفورت للماركسية النقدية. لكنه تأثر أيضاً ومنذ زمنٍ مبكر بالنزعة الوظيفية الأميركية، وبالمنعطف اللساني الذي عرفته منذ الستينيات من القرن الماضي. وقد انضمّ لاحقاً إلى التيار الدستوري ذي النزوع الكوني على طريقة الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط والميول العامة لفلاسفة التنوير. وفي الستينيات أيضاً بدأ يفترق عن نقديات مدرسة فرانكفورت ذات النفحة الماركسية، ويكتب في نوعَي الفعل (Praxis): الأول هو الفعل المحدَّد وفقاً لغايةٍ عقلية (ماكس فيبر) - أو الفعل الآخر المحدَّد تبعاً لقيمةٍ عقلية (كانط) مع تأكيدٍ على فعل القيمة أو قيمة الفعل. ثم تخلّى عن استعمال مفرد البراكسيس الذي استخدمه معظم الفلاسفة المثاليين الألمان، لصالح مفهومٍ خاصٍ توصل إليه واشتهر به، وهو مفهوم أو مجال الفعل التواصلي أو التداولية كما جرت ترجمته في الثمانينيات الماضية إلى العربيةTheorie des Kommunikativen Handel(= نظرية الفعل التداولي).
في العقود الثلاثة الأخيرة تنبهنا، نحن المهتمين ببحوث فلسفة الدين، إلى التأثيرات المتزايدة لتواصلية هابرماس في ثلاث مناسبات: الأولى: جدالياته مع فيلسوف العدالة الأميركية «جون راولز» بشأن الدور المتنامي للدولة الليبرالية. فتداولية هابرماس تبحث في ترابط الأشكال الاستدلالية ومعايير الانضباط داخل تطور «المجتمع المدني»، وهو كسائر الفلاسفة الألمان شديد الحساسية تجاه البنى الاستلابية التي ظهرت للدولة في المجال الألماني. وهي الحساسية التي لا يشاركه فيها «جون راولز»، الذي استشرف في كتابه: نظرية العدالة 1971 أدواراً حاضرةً ومستقبليةً للدولة الليبرالية الديمقراطية. إنّ تداوليات وحواريات المجتمع المدني لا بد أن تكون لها نتائج يجب أن يكون تثميرها ممكناً من جانب الدولة الليبرالية الدستورية، عملاً على تحقيق أقصى صيغ التقارُب بين الفعل القيمي التداولي والحق والاستحقاق الإنساني، وهو الأمر الذي أقره هابرماس في النهاية شأن زميله الأصغر Appel وتلميذه المشهور أيضاًAxel Honneth صاحب «الكفاح من أجل الاعتراف».
أما المناسبة الثانية فكانت نقاش هابرماس مع الكاردينال جوزف راتسينغر عام 2004 (والذي صار بابا الفاتيكان عام 2005 واستقال من البابوية عام 2013). وكان موضوع النقاش العلائق بين المجتمع التداولي والآخر الديني أو المتدين، باعتبار أنّ القطيعة بين الطرفين (العلماني والديني) ينبغي أن تنتهي وإلاّ فما معنى التداولية الشاملة؟! وقد ظلَّ هابرماس مصراً على أن التداولية لا تفترض مسبقات، إذ إنّ قيمها عقليةٌ متحررة أيضاً، وإنْ لم يجد مانعاً من وجود عقلانية دينية يصعُبُ تحديدها! وقد كان الكاردينال/ البابا مرتاحاً لنتائج النقاش، وكذلك هابرماس.
والمناسبة الثالثة الحوار بين هابرماس وفيلسوف الدين الكندي تشارلز تايلور، وتايلور لديه تجربة ألمانيةٌ أيضاً. وهو صاحب كتابٍ في التجربة الدينية (عند وليام جيمس)، وصاحب الكتاب المشهور: عصر علماني(2007- وقد تُرجم أخيراً إلى العربية). تايلور كان مهتماً بظواهر «عودة الدين» ودلالاتها، ومهتمٌ بتداخل القيم وتنازُعها أو تكاملها (كما في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مَثلاً). إنّ تداولية هابرماس تظل طهوريةً (Puritan) إن لم تقرأْ بوعيٍ وتأملٍ وبحثٍ شائقٍ في المعنى مختلف تجارب الأفراد والجماعات والتي لا ينفصل فيها العقلاني (rational) عن الروحي (Geist أو Spirit؟). والمعروف أنّ العلائق بين الروح والبراكسيس شديد التعقيد في الفلسفة المثالية الألمانية.
لأكثر من خمسين عاماً عاش هابرماس في قلب العصر مفكراً وكاتباً ومتدخلاً، ومن خلال إقباله على شرح أبعاد تداوليته الديمقراطية والدستورية، ظلَّ تنويرياً ومتصدياً للشعبويات ونزعات التمييز والراديكاليات النخبوية.
* أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية.