لأول مرة في تاريخ فرنسا سيكون الحزبان العريقان، اليمين الجمهوري واليسار الاشتراكي، خارج الحلبة الرئاسية في انتخابات العام القادم 2022 التي سينحصر فيها الاختيار بين الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون ومرشحة أقصى اليمين مارين لوبن.
ليس هذا التحول استثناءً في الساحات الأوربية التي تعرف التوجُّه نفسَه، مع صعود اليمين المتطرف واليسار الراديكالي وتراجع الثنائية الديمقراطية التقليدية المتمحورة حول قسمة اليمين واليسار.
بعض التحليلات تذهب ببعض التسرع إلى تفسير هذه المعادلة بنهاية حقبة الأيديولوجيات وتصدع الحقل السياسي إلى اتجاهي العالمية المفتوحة والنزعة السيادية القومية، بيد أن الحقيقة الماثلة للعيان هي أن الحركات الشعبوية الجديدة، في لونيها اليميني واليساري، تستند إلى تصورات وأفكار أيديولوجية تحتاج إلى الرصد والتقويم.
وسنكتفي هنا بالوقوف عند أفكار اليمين الجديد، بالتركيز على النموذج الفرنسي الذي يشكل حالةً قابلة للتعميم في السياق الأوروبي الواسع.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن تحول حزب «الجبهة الوطنية» (أو «التجمع الوطني» حسب التسمية الجديدة) إلى القوة الحزبية الأولى في فرنسا وبروز احتمال فوز رئيسته مارين لبون في الانتخابات القادمة، يعكس أكثر من مجرد أزمة سياسية عابرة، بل يعبر عن انتشار أفكار اليمين القومي الشعبوي في أوساط واسعة من المجتمع الفرنسي.
قبل ثلاثين سنة كانت قاعدة الحزب محصورة في كبار السن من العسكريين والإداريين الاستعماريين وبقايا دعاة الرجوع للعهد الملكي وبعض التقليديين الكاثوليك الرافضين للإصلاحات العلمانية (قانون الفصل الصادر عام 1905)، أما اليوم فقد أصبح الحزب ممتداً إلى الأوساط العمالية والنقابية وإلى الحركات الشبابية، وغدَا له مفكروه وصناع أيديولوجيته. 
منذ أيام أصدر مستشار الرئيس الأسبق ساركوزي وعقله المفكر «بارتريك بويسون» كتاباً مثيراً بعنوان «نهاية عالم»، ذهب فيه إلى النقد الجذري لما أسماه «الحداثة المجردة من القيم الإنسانية» بما تقوم عليه من استبدال التقليد والهوية القومية والتراث الديني بمنطق التبادل الاقتصادي والروابط الكونية التي نسجتها العولمة المالية. ولا يتردد بويسون في الاستناد إلى مفكر «القومية الكلية»، شارل موراس المتوفى سنة 1952، مستدلاً بتصوره النقدي لفكرة الجمهورية وعقيدتها الليبرالية، بما تتأسس عليه من معايير التمثيل الانتخابي التي تلغي مقولة الأمة الحية المندمجة والمتضامنة. ويبرز هنا التمايز بين «الدولة الشرعية» التي تحصر الكيان الجماعي في النخب المحدودة والدولة الحقيقية التي هي الهوية الطبيعية العضوية المتشكلة من الموروث التاريخي والوعي المتأصل بالذاتية الحضارية. ومن هنا ضرورة إعادة الاعتبار لمعايير الدين والأمة والأسرة التي أضعفتها الدولة اليعقوبية الليبرالية.
ومن المعروف أن بويسون هو الذي كان خلف إنشاء ساركوزي وزارة خاصة بالهوية والهجرة والاندماج الوطني، وهي المقولات المهيمنة اليوم على الخطاب اليميني الراديكالي الصاعد. 
ومن الجلي أن أطروحة بويسون القومية ترتبط بفكرة «الاستبدال العظيم» التي اشتهرت على لسان الكاتب الفرنسي «رنيه كاموس» الذي انتقل من اليسار إلى الأيديولوجيا القومية المتطرفة والعنصرية، داعياً إلى حماية النسيج الحضاري و«العرقي» الأوروبي ضد «الغزو الخارجي» المتمثل أساساً في الهجرة العربية الإسلامية التي اعتبر أنها تهدد الهوية الثقافية والمجتمعية للشعوب الأوروبية.
ومع أن هذه الأطروحة في صيغتها العنصرية الراديكالية ظلت محدودة في نطاق ضيق، إلا أنها أثرت بقوة في العديد من الأوساط الفكرية، وبرزت بوضوح في كتابات الفيلسوف «الآن فينكلكروت» في دفاعه عن «الهوية الفرنسية الشقية»، والإعلامي المشاكس «إريك زمور» المدان قضائياً في مواقفه العنصرية والمرشح المحتمل في الرئاسيات القادمة، والروائي الأديب «ميشال اولبك» الذي يتصدر اليوم النزعة الإسلاموفوبية في فرنسا. 
كما أن العديد من الشخصيات السياسية تبنت أطروحة «الاستبدال العظيم»، من زعيمة اليمين المتشدد مارين لوبن إلى لوران فوكييه الرئيس السابق للحزب الديغولي، انتهاءً بالرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي الذي اعتبر أن تهديد «الحضارة الغربية» جراء حركة الهجرة القومية والدينية حقيقة لا غبار عليها.
لا يتعلق الأمر إذن باليمين التقليدي الذي حافظ على ثوابت المواطنة الجمهورية وقيم الذاتية الليبرالية الحرة، بل بنمط جديد من الأيديولوجيا القومية الصادرة عن خلفيات ثقافية محافظة بقاعدة اجتماعية انتخابية مختلفة عن النزعات الوطنية اليمينية الراديكالية السابقة.
ما نشهده إذن هو انبثاق تشكلات أيديولوجية جديدة، لئن كانت تعكس أزمات سياسية حقيقية في مرحلة حاسمة من تطور المجتمعات الليبرالية الغربية، إلا أنها تحمل أيضاً آثار وسمات الصراع السياسي والفكري الذي تولدت عنه حركة الحداثة السياسية في الغرب.