نجح الفهم الصحيح للدين، وإدراك علاقته المتناغمة مع النتاجات العقلانية، في الحفاظ على استقرار مفاهيمي في خضم الأزمات حيثما وجد، لاسيما أن ما شهدته المجتمعات الإنسانية، وبخاصة بعد الحربين العالميتين، من امتزاجات «حداثية»، مع ضخامة اقتصادية واستعمارية، كل ذلك شكّل عقدةَ الحكاية حين اصطدمت المجتمعات بكم ثقافي بطابع حداثي، جعلَ من التطورات القادمة عامل تشتيت واستفزاز فكري، بل وتصدرات فكرية مشوهة.

ومن جانب آخر، فإن المادة العقلانية الثرية في الدين، تشكل سبيلاً دائم الجريان في الدفع بالبشرية نحو الاستقامة الفكرية والسلوكية، لاسيما أن كافة الفضائل تنبع من قلب الاستقامة النفسية، بينما كافة الرذائل تجيء من القالب الإنساني المرهق والمشوش والمشوه جراء اضطراب النظرة إلى مآلات الدين ومقاصده.

ففاعلية المعرفة الدينية ومدى عقلانيتها في توجيه السلوك البشري، قادرة على ضبط إيقاعات السلوكيات الإنسانية، وتوجيهها نحو الأفضل. وفي الحديث عن العقلانية والتعقل، لا يمكن ربطهما حيث وجدتا في الدين مجرداً، لاسيما أن ما تقدمه المادة الدينية من توجيهات سلوكية وأخلاقية، ومفاهيم ودلالات ناضجة، لا يكتب لها الحضور دائماً في محلها السليم، الأمر الراجع لسوء الإدراك أو الإدارة البشرية المتمردة، المتدخلة من كل حدب وصوب بقناع ديني يعكس صورة ضبابية، مما يُغيب عقلانيةَ الدين ومنطقيته وسموه، ويظهر الإنسانَ بصورة «ضحية الدين»، رغم أن الدين وجد لخدمته وتيسير أمور حياته والارتقاء به.

وهنا لا بد من الإشارة لما خالط الفهمَ الديني بشكل عام، وفهم عقلانية الدين بشكل خاص وتمييزها عن مغالطات أدت لإلصاق التشوهات الفكرية بالخطاب الديني ذاته، ومن هنا جاءت الحاجة للتفريق بين الدين والتحريف الذي جاء نتاجاً لفهم قاصر أو خاطئ له، وبخاصة أن نصوص الديانات الأساسية جاءت بتعليمات ثابتة وواضحة ومرنة في فروعها، وأما ما سيق لها من انحرافات في التأويل والتفسير، فلا يتوقف عن التغير في تقهقره نحو الوراء. وفي حين أن الدين بشكل عام، وُجد عوناً لبني البشر، وما أن تستقيم معه سلوكات الأفراد، حتى يصلوا لاستشرافات أكثر قرباً من التميز وأكثر بعداً عن التراجع أو الضعف أو الاستكانة، الأمر الذي يفسر لمَ تظل لحد يومنا هذا دول فقيرة تعاني قهرَ الجوع رغم ثرواتها المكتنزة.

وفي الوقت ذاته نبصر جل ما ارتفع بالتطورات والنهضة الإنسانية من الثبات على التجديد في كل من العقلانية التي تخضع المعطيات للواقع، وتدرس قابليته وانسجامه مع الفعل الإنساني، الاجتماعي والتاريخي، فلا يكون ما لديه من معطيات إلا محتويات ومواد يستفاد منها مع قابليتها للمعالجة والتغيير. ومن ناحية ثانية، فإن هذه المجتمعات الناجحة قد مسكت بعرى العقلانية الواعية من جهة، وتشبثت بإرادتها في تطوير الأشياء الموروثة، والإبداع في استقبال الجديد. ومن كل ذلك، لابد لنا من التأكيد على أن عقلانية الدين ليست عثرةً، بل دافعاً في تحقيق حداثة إنسانية ناضجة، بعيدة عن العبث بمعطيات الدين أو التهوين من كرامة الإنسان.. فهي دافع لتوليد انسجام فاعل بين المنظومة المعرفية والأخلاقية.

وباختصار، فإن اتباع المجتمعات لمنهجية علمية أو عملية فيها ما هو محقق لمصلحته ومريد لخيريته، لابد أن يكون مؤسساً على الدعوة للفاعلية بين بني البشر، كما ينص الدين.إن عقلانية الدين حيث غاب فهمها وجدت الصدمات الواقعية للمجتمعات، عالقين في فخ «الاستيعاب البطيء» في زمن التسارع، لاسيما أن للدين «ثروات وعي» لا يفوتها إلا من يجهلها، إذ تصب مباشرةً في قلب نهضة الإنسان وتطوره باعتباره كائناً ثقافياً يؤدي اهتمامه بالسعي المعرفي لتحقيق دوره الرسالي، وتفاعله الواضح في صنع الحضارة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة