لا يمكن ترك عجلة الصيرورة المعرفية المتعلقة بالأخلاق تسير بين دفتي الفهم والواقع بلا صورة أساسية توفر لها ما يكفي من الوضوح، إذ قد يبدو الجهل هو المتهم الأول وراء شذوذ السلوك الإنساني عن المعتاد في مجتمعات اليوم، أي ذلك النتاج المتشابك من الدلالات التي ما تزال في طور التوضيح «قبل النهائي»، الأمر الذي يمكن معاينة ترجمته في كثافة الوقائع المثيرة للاستغراب والدهشة في مجتمعات العالَم على اختلافها.

وبالرغم من إمكانية قبول الاحتمال الذي يدعي وجود كافة أنماط الانحرافات في السلوك الإنساني منذ القدم، وأن ما يصلنا اليوم من زوابع مفاجآت سلوكية ليس إلا بفضل توسع دائرة الاتصال وسهولة انتقال الأخبار بآنيتها إلى شتى زوايا الأرض، فإن ذات المُعطَى يحسس بضرورة تغيير سبل التعامل مع هذه الظواهر التي قد يؤدي تكدسها في الذاكرة لاعتيادها واضمحلال الدهشة بها، مما قد يولد فطرة جينية خُلقِية تضع ألف علامة استفهام حول ما كان يبدو فيما قبل أحد الثوابت المتربعة في إطار التقديس.

تتتابع الإثباتات في المجريات الكونية الضخمة، وكذلك الصغيرة الدقيقة التي قد لا تتجاوز الفرد، مؤكدةً مدى الترابط والاندماج بين عناصر البيئة الإنسانية الواسعة والضيقة، ففي حين اقتصر علم دراسة الإنسان (الأنثروبولوجيا) لفترات طويلة على تعريفات سطحية جداً لماهية السلوك الأخلاقي، فإن علم الإنسان التطوري بدأ يحتضن زوايا جديدة تحمل تقاطعات وتلاقيات مع ما لم نكن نتوقعه من علم الاقتصاد السلوكي، والوراثة، وغيرها مما حور المنظورات ذات الصلة بالـ«أخلقة»، مفضياً إلى نظريات عدة، منها نظرية اعتبار «الأخلاق كتعاون» (morality-as-cooperation)، حيث باتت الأخلاق تمثل «حقيبة حلول» بمكونات بيولوجية وثقافية لمشاكل يجدها الإنسان في سياق التعاون الملحوظ في الحياة الاجتماعية البشرية.

وبذلك ينفتح المجال لـ«تقلبات مناخ أخلاقي» بحسب الحاجة والإلحاح، الأمر الذي يعيدنا لتلك النظريات التي تؤمن بنفعية ومادية كل شيء، بما فيه القيم الإنسانية. وعليه فلا بد من التفصيل أكثر وصولاً لتحديد النفعي الذي لا يصح تعميمه.

إن الإنسان ابن بيئته بدرجة كبيرة، وهذا ما تؤكده دراسات النقد والتحليل البنائي للأعمال الأدبية بشكل خاص، وهو أمر لا يختلف كثيراً في تفسير نسبية الأخلاقية (Moral Relativism) التي تعبر عن تفاوت المعايير الأخلاقية من مجتمع لآخر بتأثير العرق والتوجه الثقافي والتاريخ الزماني والانطباع الملاصق للذاكرة.

أما في الاتجاه الحاضن لكل هذه التقلبات فهناك مظلة عامة أخلاقية تحتاج توقيعاً إنسانياً بالموافقة، وإبعاد كل شاذ ومنحرف من الفكر الذي قد يؤثر على هيكلتها. وهو ما عبر عنه علماء الأنثروبولوجيا بالأخلاقية الشاملة (Moral universalism) التي لا تتوقف بتأثر عامل ما وتتحد كعامل مشترك بين كافة البشر.

وربما يتعين وصولاً لهذا الهدف السامي قوننة التربية الأخلاقية وفتح مساراتها في شتى الحقول المعرفية والأكاديمية، لما لها من نهج شمولي داعم للقيم ومرحب بالتنوع ومنعش للتعاون والتعايش بين الأمم.. وذلك وفق منهجية تُعنى بالتربية الفردية للإنسان وبتمكين الأسس الأخلاقية لديه مما يغطي حيز الفرد والمجتمع، ويسمو بالتربية المدنية، ويؤذن بولادة تربية ثقافية عريضة.

إن الأخلاقيات الشاملة تتفق بنسبة كبيرة مع فكرة الإيمان بالمشترك الإنساني المتجاوز لحدود الزمان والمكان، خروجاً من ضيق الفردية إلى سعة الرابطة الإنسانية، كمخرج آمن من شتى النزاعات، وكدافع لاجتماع الخير ونضوج قوته الروحية المؤثرة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة