إذا كان التدوين الفكري العربي عجز عن صياغة سؤال يتمكّن من خلال طرحه من القبض على طبقة واحدة من طبقات التكلّس التي ترين على قلب الحياة النابض، فإن الإشكالية الأساس في تصوّر العربي لحالته هو! حيث تتصدّر لائحة المطالبات التنويرية الحالية مطالبات سطحية، تدل على ضعف في استيلاد الأسئلة وسخاء باذخ في كتابة الأجوبة وتزويقها.

تُطرح أولويات كثيرة على أنها هي «الشروط» التي يمتنع تحقيق أمر ما، ما لم تتحقق تلك الشروط، ويغيب الواقع بوصفه شرط الشروط، هذا ما تدل عليه الكتب المرصوفة رزماً وكلها تدعي أنها وجدت حلّ التنوير السحري، بين ثنائيات قديمة، بين شرط إسقاط «الحكومات» وشرط إسقاط «الجامع»، لم تجرؤ إلا البحوث الحديثة الحداثية جداً على تجاوز تلك الثنائيات العتيقة والتي تدور في فلكها قوات التنوير الفكرية، لم تعد كل تلك الصفحات سوى عملة قديمة، لأنها تفكّر بعقلية ما قبل تأثير التنوير الأوربي على الحلم العربي.

لم يتكوّن بعد سؤال التنوير الفعلي الذي يشخّص موقفاً عملياً من الإرث بتنوّع طبقاته، وأصبحت أغلب الإنتاجات المتصلة بالتنوير ليست إنتاجات فلسفية، فهي تشبه «تقارير التنمية» أو «تحليلات الخبراء» وتلك الخطابات لا تكوّن سؤالاً، بقدر ما تُبروز «الحلُم» بالخروج من ذلك النفق، يصبح التنوير «دغدغة» تُلازم الصحفي والخبير والتنموي، ويعجز السؤال الفلسفي عن صياغة سؤال يصبح ثابتاً ثقافياً شعبياً يجتثّ مرض التخدر الطويل.

عدا عن كون تشكيل السؤال فالفلسفة-حسب هيدغر- تبدأ مع السؤال، وجلّ الإخفاق الذي يجثو على ركب التدوين المتصل بالفلسفة من جهة العرب مصدره عدم التفريق بين «الفلسفة» و«الفلسفات» فأكثر اللقطاء في حقل الفلسفة هم من «ضحايا النظريات» وعبّاد الفلاسفة وأتباع المقولات، بينما تظل الفلسفة «البناء الذي يحتفظ بكينونته، ببراءة السؤال الأول، بعدها ومع المراس تتكون الفلسفة وفق النظر في الكون والرؤية للعالم والعيش بوجود حقيقي داخل العالم.

فالفلسفة –وفق كيركجارد-يفترض أن لا تكون (فلسفة أساتذة وإنما نتاج بشر موجودين حقاً) لم تزل بعد حركة التنوير العربية حركة متذبذبة تضع كل عوائقها المعرفية والفكرية على الآخرين. طريقة خروج الغربي من مأزقه القديم المشابه لمأزقنا الحديث لم يسر بالبحوث إلى قراءات تأويلية، لذلك الحدث عبر كتابات دقيقة، وإنما أثّر على قاعدة التدوين الفكري العربي، وهي ما تسمى بـ«المشروعات الثقافية» التي تضع قاعدة الخروج المتصوّرة ثم تشيّد مشروعها النقدي عليها.

ندرك كل تلك الفوضى حينما نعلم أن العالم العربي لم تمرّ عليه نهضة معاصرة، حتى تلك التي عقبت استيراد المطابع، ثم عصر الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، لم تكن سوى لحظة هدوء سُمع بسببها حوارات عامة عن (سرّ تقدم الغرب وسرّ تخلفنا)، ذلك السؤال لم يكن جوهرياً برغم ترسانة الكتب التي حملت العنوان ذاته أو قريباً منه.

الفقر الأيديولوجي في تلك الفترة ساهم في تسهيل سماع الناس لذلك الحوار، وإلا لو كان التنوير يقاس بعدد الكتب والمشاريع التي تسأل عن التنوير ولغزه وتنتج المؤلفات والأجوبة حوله، فهي هذه الفترة الأكثر ضرواة من حيث «التأليف» و«الترجمة» والإنصات للغرب. في نظري لم يكن «عصر النهضة العربي» المدوّن عصراً نهضوياً، بل ربما كما يرى البعض كان مجرد عصر «فقر أصوات».

*كاتب سعودي