بعد عدة سنوات من قيام شركات النفط الكبرى بإجراء تقليص كبير في استثماراتها النفطية، مما أدى إلى تراجع طاقاتها الإنتاجية تحت ضغط حكوماتها وبعض المؤسسات المدنية بغية تقليل الانبعاثات الكربونية، عدّلت هذه الشركاتُ مؤخراً من سياساتها الرامية إلى تخفيض الاستثمارات وأعلنت أنها بصدد زيادتها في الفترة القادمة!

لقد أدى هذا التوجه إلى زيادة كبيرة في استثمار مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، حيث أشارت وكالة الطاقة الدولية إلى أن حجم الاستثمارات في مصادر الطاقة الشمسية سيتجاوز حجم الاستثمارات النفطية لأول مرة في عام 2023، متوقعةً أن يصل إجمالي الاستثمارات العالمية في الطاقة إلى 2.8 تريليون دولار هذا العام.

وتعتبر زيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة المتجددة خبراً ساراً يدعو إلى التفاؤل بتحسّن البيئة وظروف المناخ بعد أن أدت التغيرات المناخية إلى كوارث طبيعية في العقود القليلة الماضية، حيث أسهمت بعض الدول المنتجة للنفط، وبالأخص دولة الإمارات ودول مجلس التعاون الخليجي، في تطوير مصادر الطاقة المتجددة، حيث توجد في دول المجلس الآن أكبر محطات إنتاج الطاقة الشمسية في العالم، كما ساعدت الإماراتُ ومولت تنفيذَ مشاريع الطاقة الشمسية وطاقات الرياح ومصابات الأنهار في العديد من دول العالم.

والحال فإن هناك فارقاً كبيراً بين سياسات الطاقة في الدول المنتجة للنفط، كدول مجلس التعاون، وبين مثيلاتها في الدول المستهلكة. ففي الدول النفطية سارت الاستثمارات في الطاقة المتجددة وطاقة النفط والغاز في خطين متوازنين، بمعنى أن الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة لم يؤثر أو يضعف استثماراتِها في مصادر الطاقة الأحفورية، وإنما توزعت استثماراتُها بين هذين القطاعين بصورة متوازنة ومدروسة، وذلك على العكس من سياسات الطاقة في البلدان المستهلكة التي أرغمت شركاتها تحت طائلة العقوبات على تخفيض استثماراتها في النفط والغاز، في الوقت الذي لم تتمكن من تنفيذ برامجها في مجال تنمية مصادر الطاقة المتجددة بما يتناسب ويلبي احتياجاتها، مما أدى إلى ارتفاعات حادة في أسعار الطاقة والتي خفف من حدتها استمرارُ الدول المنتجة للنفط في زيادة استثماراتها ورفع طاقاتها الإنتاجية لتلبية الطلب العالمي المتزايد لمصادر الطاقة عموماً.

وكما تشير وكالة الطاقة الدولية إلى أن الطلب على النفط سوف يرتفع هذا العام بمقدار 2.5 مليون برميل يومياً، ليصل إلى 104,5 مليون برميل، حيث يقوم تحالف «أوبك+» بإنتاج 40.5 مليون برميل يومياً في الوقت الحالي، بينما يمكنه زيادة طاقته الإنتاجية إلى 44.5 مليون برميل يومياً، مما يتطلب توفير 60 مليون برميل يومياً من مصادر خارج التحالف، وهو أمر صعب بسبب تقلص الاستثمارات في الطاقة النفطية خلال الفترة الماضية، وهو ما دفع شركات النفط الكبرى مؤخراً لزيادة استثماراتها في هذا المجال.

ومع إن نتائج هذه الاستثمارات بحاجة لبعض الوقت لتسهم في رفع الطاقة الإنتاجية، فإنها يمكن أن تساعد في طمأنة الأسواق، في حين أن جزءاً من الطاقات الإنتاجية المعطَّلة يمكن أن تتسارع فيها عمليات الإنتاج، في الوقت الذي سيزداد فيه الاعتماد على إنتاج تحالف «أوبك+» الذي لم يتوقف أعضاؤه عن ضخ المزيد من الاستثمارات في الصناعة النفطية.

ويشير ذلك إلى مسألة مهمة تتعلق بضرورة التعامل مع قضايا الطاقة والقضايا الاقتصادية بشكل عام انطلاقاً من الاحتياجات الأساسية والقدرات المتوفرة من خلال توازن العرض والطلب، وبعيداً عن العواطف.. فقضية البيئة والتغيرات المناخية تهم كافة دول العالم، بما فيها البلدان المنتجة للنفط، بدليل عقد مؤتمر المناخ «كوب 28» في الإمارات هذا العام، والذي يتوقع أن تساعد مخرجاتُه في تحسين البيئة والظروف المناخية وتداعياتها، إذ إن معالجةَ هذه القضية التي تشكل أهميةً كبيرةً للبشرية تتطلب رؤيةً عمليةً متوازنةً لتفادي خلق مشكلة أكثر تعقيداً قد تؤدي إلى أضرار اقتصادية بالغة تؤثر في مستويات المعيشة من خلال التضخم وارتفاع الأسعار، كما حدث في السنوات الأربع الماضية.

*خبير ومستشار اقتصادي