لم تعد مقولة «تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخر» كافيةً لرسم حدود الحريات، وبخاصة في ظل الاختلاف الكبير حول الجدليات المحيطة بماهية الحرية عامةً وحرية الفرد بشكل خاص. ذلك أن إنسان اليوم يعيش واقعاً مليئاً بعبارات «التعبئة النفسية» لذاته، بحيث يولي الاهتمام لرغباتِه ومصالحه وميوله قبل أي شيء آخر، بحجة أنها لا تؤذي أحداً ولا تمس خصوصية الغير، الأمر الذي يبقينا متفرجين على بعض التصرفات الغريبة دون تحديد موقف حازم منها، مما يؤدي لتكوين صورة مشوهة للثقافة المجتمعية التي ستصبح إرثاً في المستقبل، إضافة لمغالطات في المحتوى المعرفي الخاص بالحق الإنساني.

أثَّرت العديدُ من العوامل في تشكيل صورة الحريات لدى الأفراد، إذ بتفاوت الوزن القيمي وصياغته، وبتباين حضور النص الديني والتشريعي، بقيت هناك انعطافات حادة قليلة الإنارة، مما سبب اصطداماً قوياً بين الإنسان وفهم حرياته، فانقسم الوعي الإنساني حول الحرية لفريق غير ملم بها، وفريق آخر تعدى مرحلة الفهم إلى القفز عليها من خلال «مبالغات سلوكية» مطوِّعاً إياها كأحد التفرعات الطبيعية التي تعبر عن حريته، في صورة مهملة لوجود المجتمع، إذ تكمن «الإشكالية الكبرى للحرية في الصراع الدائم بين بعديها الفردي والاجتماعي.. فإذا كان الفرد هو محور الحرية الأساسي، فإنه لا يستطيع العيش إلا في مجتمع، والحرية الفردية لا تكون كذلك إلا في إطار الجماعة»، كما يقول أحد الكتاب.

إن تعدي مساحة الحرية المنظمة، هو إفساد لذات الحرية، وتهميش لثوابت الوجود الإنساني المتعلقة بمساحة قيمية وأخلاقية، فعندما تؤول التوجهات الرامية للتحرر المطلق بحجة اعتباره «ذاتياً»، فهي تتملص أيضاً من القيد الأخلاقي الناظم للعلاقات الإنسانية فتصبح الشتيمة والاستهزاء أمراً فردياً وتعبيراً عن الرأي، وبالتالي فذاك اعتراف بالقفز على القيد القانوني الساعي لتنظيم الحريات وحمايتها، وتغذية «غير صحية» للأنا البشرية التي باتت تشق طريقها في معظم محافل التنمية البشرية «غير المؤهلة»، والتي تختص بغرس فكرة الاستقلال عن الكل وعدم حاجة الإنسان، «عاطفياً» وواقعياً، لوجود الآخر، مما يبث وجود «حالة همجية» ويوضح اغتراب الإنسان عن ذاته باستخدام مصطلحات أخرى لا تمثلها.

فالانتحار وتشويه الجسد والإجهاض.. إلخ، كلها انحرافات فكرية كرستها سلوكيات منبثقة من «الأنا» محدودة الاتصال بمعنى الحق والحرية على وجه الحقيقة. وإذا كانت الفردانية تتغذى من خلال التوجهات المنحرفة عن الفطرة السوية، فإن حرية الجسد بإغراء من الواقع الذي نعايشه، هي بداية حقبة مظلمة. فالحرية لا تتجزأ، ولا تتعدى ضوابطها.

وبالاتجاه للمجتمع المدني وأعمدته الرئيسة، فهل القيام بالواجبات والمسؤوليات المدنية في المجتمع يكفي لرفع «الوصاية» والرقابة عن الفرد والتحرر من القيود الأخرى كافة؟ وحتى تكون الإجابة منصفة، يجب تحديد ماهية هذه الحقوق والحريات وعلاقتها بالقيد الأخلاقي والمسؤولية الإنسانية، فعند الحديث عن حرية المرأة في تصرفها بجسدها، الذي يعني قدرتها بقرارها الشخصي إجهاض جنين تحمله، فهذا يعني تعدياً على حق إنسان آخر وإزهاقاً لروحه، أي أنه «اعتداء على حق الحياة»، وبالتالي لا يمكن تخليص «حرية الإجهاض» من القيود كافة التي وضعت لتنظيمه، خاصة فيما يترتب عليه من حكم شرعي وآثار صحية ونفسية وأخلاقية اجتماعية، وبالتالي فمُلكية الجسد مُلكية نسبية لا يمكن إطلاقها.

إن تعميم «الطوباوية الحرياتية» ليس فكرة بل هي «عثرة» وهدر لطاقة إنسانية ينبغي الالتفات لتحدياتها الكبرى، لاسيما أن الإنسان عبر التاريخ، وفي مختلف الحضارات والتموقعات، لم يعش تلك الحالة المتصورة حول «الانفلات باسم الحرية»، وبالتالي فالإنسان الحر هو المسؤول والواعي بحقوقه وواجباته في إطار تشريعي ناظم، والقادر على الشعور بانعكاس سلوكه مع ذاته على المجتمع بأكمله. فالحرية لا تعني سحق الهوية الفردية في غمار الجمعية، ولا يعبر عنها «اختطاف الأنا» ومظاهرها!

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة