بلغت أسعار النفط بداية شهر أغسطس الجاري أعلى معدل لها منذ أربعة أشهر، وذلك بفضل العديد من العوامل التي يأتي في مقدمتها ارتفاع الطلب الدوري في الربع الثالث لملء الخزانات استعداداً لفصل الشتاء، إضافة إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية في العديد من البلدان الكبرى المستهلِكة للنفط، وتوارد بعض الأنباء من بعض المصادر المتخصصة حول حجم الطلب في ما تبقى من هذا العام والعام القادم.

فمنظمة «أوبك» أكدت مؤخراً على توقعاتها السابقة بارتفاع الطلب على النفط بمقدار 2.3 مليون برميل يومياً للعامين الحالي والقادم، في المقابل انخفض إنتاج الدول الأعضاء في المنظمة خلال شهر أبريل الماضي ليصل إلى 28.6 مليون برميل يومياً، وليعاود التراجع مرةً أخرى في شهر يوليو بمقدار 836 ألف برميل يومياً ليبلغ 27.3 مليون برميل وفق التقرير الشهري للمنظمة، وذلك بفضل التزام الأعضاء بحصص الإنتاج والتحفيض الطوعي الكبير من جانب السعودية.

كما قالت وكالة الطاقة الدولية في تقريرها لشهر أغسطس الحالي إن متوسط حجم الطلب على النفط سيصل هذا العام إلى 102.2 مليون برميل يومياً. وقد أدى كل ذلك إلى حالة من التوازن بين العرض والطلب، رغم زيادة إنتاج بعض الدول، كالبرازيل وكازاخستان والولايات المتحدة التي يبدو أنها أعادت النظر في إنتاج النفط الصخري الذي تأثر بسياسة الإدارة الحالية الخاصة بالعوامل البيئية.

ورغم عملية الشد والجذب بين الدول المتنافسة حول الأسعار، حيث بينت التطورات الأخيرة مدى قوة هذا التنافس بين القوى التي تحاول تخفيض أسعار النفط والمحاولات المضادة لبقاء الأسعار عند مستويات مرتفعة، فإن انخفاض أو ارتفاع أسعار النفط -كسلعة استراتيجية- ستكون له تداعيات جيوسياسية كبيرة، وذلك إلى جانب التداعيات الاقتصادية.

لذا من المهم معرفة اتجاه الأسواق والأسعار في الفترة القادمة، وبالأخص مع اشتداد التوترات العالمية في العديد من مناطق النزاع، إذ ستتوقف مسارات اتجاهات الأسعار على قوة كل من دول «أوبك+» من جهة ومنافسيها الرامين إلى تخفيض الأسعار من جهة أخرى، حيث يملك كل منهما أدواته ومصادر قوته. وإذا ما بدأنا بمجموعة «أوبك+» فإن قوتها تكمن في وحدتها وفي هيمنتها على 40% من إنتاج النفط و60% من احتياطياته، مما يعني أن فقدان التجانس بين الدول الأعضاء قد يكبّدها خسائرَ جسيمةً بسبب احتمالية انهيار الأسعار، وهو ما يشكل نقطةَ الضعف الأساسية لديها.

أما منافسوها، فإن مركز القوة لديهم يكمن في ما يتمتعون به من نفوذ وهيمنة على أسواق التداول وتعاملاتها المالية، بما في ذلك التلاعب من خلال المضاربات.. في حين أن نقاط الضعف لديهم عديدة، فإنتاجهم من النفط لا يشكل نسبةً مؤثرةً، كما أن استهلاكهم المحلي يفوق الإنتاج، في حين أن صادراتهم تحمل طابعاً فنياً يتعلق بنوعية النفط المنتَج هناك والتي لا تناسب دائماً مَعامل التكرير لديهم، كما أن إنتاجهم مرشح للتناقص في السنوات القادمة بسبب محدودية احتياطياتهم والتي ستؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة اعتمادهم على دول «أوبك+».

هذا الموجز يوضح إلى أين ستسير اتجاهات أسواق وأسعار النفط في السنوات القادمة، فميزان القوى يميل لمجموعة «أوبك+»، وهو ما يعني أن مرحلة النفط الرخيص قد تنتهي دون رجعة، وذلك بشرط المحافظة على تماسك أعضاء المجموعة لتجنب نقطة الضعف التي يمن أن تهدد مصالحها.

ومع ذلك، فإن تذبذب الأسعار سيرافق الأسواق في الفترة القادمة نتيجةً لقوة المنافسة التي أشرنا إليها، إلا أن المؤشر العام سيُبقي الأسعارَ عند مستويات مرتفعة نسبياً وتلبي مصالح واحتياجات الدول الأعضاء في «أوبك+»، مما يعد تطوراً إيجابياً يرقى إلى أهمية طفرة الأسعار بمنتصف السبعينيات، وسيجد له انعكاساتٍ على الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول وعلى استقرار ماليتها العامة وموازناتها السنوية ويفتح الطريقَ للمزيد من النمو والتنوع الاقتصادي.

*خبير ومستشار اقتصادي