عاش جيلي في صباه وشبابه أهوالَ الحرب الباردة وحروب الوكالة التي بلغت ذروتَها بالحرب في فيتنام في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ثم بدأت بوادر الانفراج منذ مطلع السبعينيات بين القوتين العظميين آنذاك، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وتحول الانفراج إلى «وفاق» بعد وصول جورباتشوف إلى قمة السلطة في الاتحاد السوفييتي منتصفَ الثمانينيات، حيث طرح مبادئه الجديدة لسياسة بلاده الخارجية مثل «عالم واحد أو لا عالم» و«توازن المصالح لا توازن القوى».. وبدا الأمل مشروعاً في عالم أفضل وأكثر سلاماً واستقراراً، إلى أن وقع زلزال تفكك الاتحاد السوفييتي ليكون بدايةً لمرحلة عدم استقرار ممتد ترتبت على عاملين أساسيين، أولهما أن هذا التفكك كان بدايةً لمرحلة شهدت تراجعاً لمبدأ السلامة الإقليمية للدول، فتفككت دول عدة أهمها يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وجرت محاولات للانفصال في دول مثل المملكة المتحدة (اسكتلندا) وكندا (كيبك) وإسبانيا (كاتالونيا)، ناهيك بطموح الأقليات في أماكن عديدة من العالم للانفصال عن الدول التي لا تتكون شعوبها من قومية واحدة.

أما العامل الثاني فنبع من سياسات القطب الواحد الذي انفرد بقمة النظام الدولي، وقام بمغامرتين تمثلتا في احتلال أفغانستان والعراق، كان لهما أكبر الأثر في شيوع الفوضى وعدم الاستقرار في البلدين ومحيطهما الإقليمي.

وزاد الطين بلةً في عالمنا العربي ما ابتُلِي به لاحقاً من انتفاضات شعبية غير منظمة تدخلت فيها أصابع خارجية كثيرة فشاع عدم الاستقرار وتفجرت صراعات داخلية في دول عديدة استفادت منها التيارات التي تنسب نفسها للإسلام، وتعاظم الإرهاب الذي ميز سلوك فصائلها، وبلغ ذروتَه بتأسيس دولة للإرهاب أُعلنت من الموصل في عام 2014 وظلت قائمة حتى عام 2017، وإن لم ينته خطر الإرهاب بنهايتها.

ومع استمرار التداعيات السلبية لكل ما سبق، بدأ ظهور تحديات من نوع جديد تمثلت في جائحة كورونا والتحورات المختلفة للفيروس المسبب لها، وآخرها ما أُعلن عنه منذ مدة وجيزة، لكي تتجدد احتمالات حدوث جائحة جديدة.

ولم تقتصر تداعيات جائحة كورونا على التكلفة المادية الباهظة في الأرواح والخسائر الاقتصادية، وإنما زادت من التوتر الدولي نتيجة تبادل الاتهامات حول المسؤولية عن الجائحة، وبالذات ما إذا كان الفيروس الذي سببها من صنع دولة بعينها أم أنه ظاهرة طبيعية. كما سببت تعقيداتُ مواجهة الجائحة وصعوبتها خلافات بين الدول امتدت حتى إلى داخل الاتحاد الأوروبي حين انتقدت الدول الأعضاء الأكثر ابتلاءً بالجائحة الاتحاد لعجزه عن مد يد المساعدة لها في أوقات حرجة.

وإذا كان الخلاف قد شجر بين الدول حول المسؤولية عن نشأة جائحة كورونا، فليس ثمة شك في مسؤولية البشر عن خطر داهم آخر يواجه البشرية، ويتمثل في تداعيات التغير المناخي الذي أكدت تطوراتُ هذا العام أنه بلغ ذروةً تمثلت في درجات حرارة غير مسبوقة شهدتها الكرة الأرضية الشهر الماضي، وأفضت إلى حرائق هائلة في أماكن متنوعة شملت أرجاء العالم كافة، وتسببت في أضرار مادية وبشرية هائلة.

وللأسف فإن كل هذه التطورات تحدث الآن في ظل مواجهة عالمية نشهد أخطر تجلياتها في الحرب الراهنة في أوكرانيا التي كان تفاديها سهلاً لو ساد صوت العقل وتراجعت لغة المصالح الضيقة.. فأين المفر من هذا النهج الذي يقلص إمكانات المواجهة الفاعلة لهذه المخاطر الداهمة؟

 

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة