تنصهر مخرجات التطور المعرفي الإنساني مجتمعةً، في سبيل تحقيق رفعته، وتسجيل انتصاراته الكبرى على معضلات كانت تشكل الهمَّ الأكبرَ لدى الحضارات السابقة، إذ مهما تفرعت وابتعدت الجوانب الفلسفية والفكرية، فإنها تعود مجتمعةً بشغف حول غايتها السامية في إعمار الذات والأرض. وحتى يستطيع الإنسان الدخول في غمار هذا المشروع الكبير، لا بد له من تأسيسٍ منهجي يتعرف من خلاله على ماهية ذاته، وموقعه من الكون، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات وواجبات، وبصورة أكثر شمولاً يمكن اللجوء للفلسفة التي تُعنى بالإنسان والحضارة، وهذا هو لب النتاج الفلسفي لدى المفكر الجزائري مالك بن نبي.

لقد امتاز بن نبي بحسه العالي، ورؤيته الحاذقة، وثقافته الواسعة ذات النفَس «الخلدوني»، الأمر الذي مكّنه من بناء فلسفة حضارية شاملة متكاملة، تتناول التحولات السياسية والثقافية وملامح التفاعل مع الغرب، مع التفاتات نقدية معمقة لا تتنازل عن مكانة الإنسان ومحوريته في تثبيت المستوى التقدمي الحضاري، والحكم على مراحله، وبخاصة أن للحضارة ارتباطاً مباشراً بالواقع الإنساني المَعيش وبيان صلاحه من فساده.

وربما هنا تركزت معظم التوجهات النقدية لبن نبي على الحضارة الغربية في نزعتها المادية، وتأخيرها المكانةَ التي يستحقها الإنسان، لا سيما أنه ينطلق من قناعته الثابتة بأن كل ما يبتعد عن المسار الفطري السوي، يعود بتشوهات حضارية ومشاكل إنسانية يكابد ثقلَها الإنسانُ أزماناً متواترةً، على هيئة مشكلات مثل الجهل، والأوبئة، والفقر، والجوع.. إلخ.

وأي حضارة حينما تنحدر عن ثوابتها الإنسانية المشتركة بين بني البشر، تتولد في ثقافتها لا محالة مبادئ ركيكة أو مشوهة. وقد عانت التوجهات الفكرية للحضارة الغربية من مظاهر شوفينية إزاء الحضارات الأخرى، وربما ذلك جاء كتعبير عن التحول «المجنون» الذي قلب أوضاع الغرب من حال إلى حال مختلف تماماً، وكنتاج للظروف القاسية التي كابدها الأوروبيون لسنوات طويلة. لكن هل يعد ذلك مبرراً لاصطفاء الذات عن الآخر؟

وهل يمكن الاستناد لذلك في استثناء الآخر أو استبعاده من دائرة الإنسانية؟ وهل من التطور والتقدم إنكار حضارة الآخر وتاريخه؟ أثبت بن نبي أن الفلسفة تتعدى كونها ثراءً تنظيرياً، لا سيما من خلال تصوره الموسوعي العام للحياة، ودعا لتسخير كافة العوامل والظروف سعياً نحو تجديد الحياة، وإنعاش تطورها، دون القفز عن أساساتها المكينة.. إذ كان متشبثاً بالمعارف كيفما وجدها، لا يميل البتة لإخراج مكنونات الكون عن فطرتها، وذلك خلال دراسته المستفيضة لعوامل التخلف والتحضر، الأمر الذي جعل فلسفتَه تمثل الإنسانَ بغض النظر عن دينه وعرقه وحضارته.

لقد قدَّم فلسفةً «وسطية» بين المادي والعقلي، دون الجنوح لأحدهما. وفي حين أنه تشرب الفلسفتين الفرويدية والماركسية وغيرهما فإنه التزم باحترام الإرادة الإنسانية، وهذا مصدر الأثر البارز الذي شاع في شتى أفكاره المتأثرة على فهم جلي بالنص القرآني الكريم والسنة النبوية المطهرة. وبالتالي فالناظر في كتابات بن نبي يلحظ أن الإنسان يمثل محور النسق التنظيري المجرد لعوالم من الإنتاج الفكري الدافع بعمارة الأرض وتحقيق المهمة الاستخلافية فيها.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة