البقاء في «منطقة الوسط» هو بمثابة الإقامة في بقعة آمنة بدلاً من التشبث بأحد المخاطر التي قد تفضي بالإنسان للعيش في قلق مستمر.

واختيار العقل مكانة الوسط في الأمور اللاقطعية هو قرار صريح وواع بالإقلاع عن الرفض المنغلق، وترحيباً بإرهاصات التجديد في الفكر والإثراء الفكري والمعرفي بطريقة مستدامة. وكما ورد عن وهب بن منبّه، رحمه الله تعالى، فـ«إنّ لكلّ شيء طرفين ووسطاً، فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، فإذا أمسك بالوسط اعتدل الطّرفان.. فعليكم بالأوسط من الأشياء».

وفي المجال الفلسفي، نجد أن هناك انقساماً كبيراً خاصةً بين مؤيد متحمس ومعارض متشبث برأيه، وتلك الحالة شقت طريقَها وبقوة لا سيما في بدايات انفتاح حركة الترجمة المصاحبة للمؤلَّفات ذات الصلة بالميتافيزيقا وقضاياها، وتبادل الثقافات المتسارع بين الشرق والغرب الذي أيد المنهج العقلي المادي بطريقة ملاحظة، لكن استمراره لم يكتب إلا للمتخصصين في مجال النقل دون المبالاة بالفلسفة، في ظل الاعتماد على الشريعة باعتبارها كفاية علمية وعملية وافية، وما دونها «بذخ عبثي»، أو لمن هم ذوي مهارة فلسفية بعيداً عن العقيدة وفحواها.

وهذا يرتبط بالرأي الأول، إذ دفع موقف بعض الفلاسفة من الدين، وتقليلهم من قيمة ووجدانية شعائره، إلى رفض فلسفتهم، إضافةً لما يعتري الكثير من الأطروحات الفلسفية من مضمون خرافي.

أما في العالم الإسلامي، فنجد أنه نتيجةً لذلك الوجود الفكري ظهر فريقٌ ثالث يتخذ موقف «الوسط» من خلال الاتجاه نحو المواءمة والتناغم بين كل ما سبق، الأمر الذي ظهر جلياً في العديد من الطروحات الفكرية والفلسفية الإسلامية. وفي تفسير لهذا الاتجاه، نرى أن العلماء المسلمين تأثَّروا بالنهج الشرعي الذي حث على الاعتدال والوسطية في كل شيء، ودعا للمرونة والانفتاح والتعارف في نطاق رزين غير مقيد، وبالتالي فقد أثبت تاريخ العلوم الإسلامية أن التوفيق هو أحد أساليبه المنهجية. وبالتالي فقد اتخذت الفلسفة لدى هذا الفريق معنىً أقرب لما عبّر عنه «إخوان الصفا» في قولهم بأن «أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات حسب طاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم».

إن الفلسفة والدين، رغم اختلاف مصدر كل منهما، يلتقيان في نقطة ما، ذلك أن تساؤلات الأولى قادت بالضرورة للثاني، لا سيما أن اختلاف المصادر لم يَحل دون تشابه المقاصد، وخاصة تلك المتمحورة حول إفادة الإنسانية في المجال العلمي والعملي.

ففي حين دعا العديد من الفقهاء لبتر كل برعم فكري للفلاسفة، وإتلاف مؤلفاتهم ونشر الثقافة التي تحذر من الإصغاء لأطروحاتهم، نجد أن من العقلاء مَن فصل بين ذميم الفلسفة وحسنها، وبين الفلسفة كأسلوب في التفكير وبين نتاجه من الأفكار.

يقول ابن الخطيب في وصيته: «فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وأحكامه، وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم والعلوم القديمة والفنون المهجورة الذميمة فأكثرها لا يفيد إلا تشكيكاً ورأياً ركيكاً.. لا تخلطوا جامكم بجامها إلا ما كان من حساب ومساحة وما يعود بجدوى فلاحة وعلاج يرجع على النفس براحة، وما سوى ذلك فمحجوز وضرم مسجور وممقوت ومهجور».

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة