اقتربت أسعار النفط من أعلى معدلاتها خلال عام لتتجاوز حاجز 90 دولاراً للبرميل، في ظل التزام أعضاء «أوبك+» بحصص الإنتاج، إضافة إلى التخفيض الطوعي من قبل السعودية وروسيا والذي يقابله ارتفاع الطلب، مما يعني أن الأسعار ستظل مرتفعةً للفترة القادمة، حيث رفع «بنك غولدمن ساكس» توقعاته لأسعار النفط للأشهر القادمة إلى 100 دولار للبرميل.

وأدى ذلك إلى تغيرات جوهرية في مواقف الدول المستهلكة بهدف زيادة المعروض للحد من ارتفاع الأسعار، إذ أُلغيت عملياً العقوباتُ المفروضة على صادرات النفط الإيرانية والتي أصبحت شكلية تماماً، وبالأخص بعد الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية بعد الاتفاق على تبادل الأسرى، كما أُلغي الاجتماع الأخير للدول السبع الكبرى المخصص لمراجعة السقف الأعلى السعري لصادرات النفط الروسية لإتاحة المجال أمام تدفق هذه الصادرات بأسعار السوق.

ولم تقتصر هذه التطورات على أسعار النفط وحدها، بل شملت كذلك أسعارَ الغاز الطبيعي، حيث ذكرت «بلومبيرغ» أن «الحكومة الألمانية تتوقع أن تظل أسعار الغاز مرتفعةً حتى عام 2027 على الأقل، خصوصاً مع استمرار الحظر المفروض على واردات الغاز الروسية إلى أوروبا، والذي قد يتم إلغاؤه». كما ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن «المسؤولين الألمان يؤيدون في اجتماعات خاصة بدءَ مفاوضات السلام بشأن أوكرانيا»، مضيفةً أن «هناك رغبة في برلين وواشنطن في ألا يستمر الصراع إلى ما لا نهاية».

ومع أن صادرات النفط والغاز الروسية لم تتوقف، وإنما غيرت اتجاهها نحو الشرق، فإن إزالة الحظر المفروض عليها وعودتها الطبيعية للأسواق، وبالأخص الأسواق الأوروبية في حالة التوصل إلى حل للمشكلة الأوكرانية ستكون له بعض التداعيات على أسعار النفط والغاز، حيث أشارت مفوضية شؤون الطاقة في الاتحاد الأوروبي إلى ارتفاع شحنات الغاز الروسي إلى دول الاتحاد خلال الأشهر السبعة الماضية. إلا أن هذه التداعيات ستكون محدودة نتيجة للعديد من العوامل، إذ قالت وكالة الطاقة الدولية «إنه سيكون هناك عجز كبير في أسواق النفط خلال الربع الرابع من هذا العام».

ويكمن أحد أهم هذه العوامل في كون هذا التغيير لن يكون له تأثيرات كبيرة في العلاقة بين مستويات العرض والطلب في الأسواق الدولية، بقدر ما سيساهم في خفض تكاليف النقل للأسواق الأوروبية والذي سيؤدي إلى تخفيض الأسعار للمستهلك النهائي في هذه الدول، وسيقلل من أعباء دعم الطاقة والذي حمّل موازنات دول الاتحاد الأوروبي نفقاتٍ إضافيةً، ما يعني أن ذلك سوف لن تكون له أية تداعيات ذات أهمية على الأسواق.

وبجانب ذلك، فإن الاجتماعات الدورية لمجموعة «أوبك+» ستعالج أولاً بأول كل التطورات الأخيرة في سوق النفط وستعمل على المحافظة على الأسعار عند مستوياتها الحالية التي تتراوح بين 80 و90 دولاراً للبرميل، كما هو الحال في السنوات القليلة الماضية، حيث تبدو المجموعة أكثر تماسكاً من أي وقت مضى، وهو ما يدعم الأسعار عند مستوياتها العادلة. وأخذاً بعين الاعتبار التوقعات الخاصة بارتفاع الطلب بنسب أعلى من السابق، حيث قدرته منظمة «أوبك» بـ 2.5 مليون برميل في العام القادم، ما سيوفر قدرات إضافية للدول المنتجة تتيح لها دعم أوضاعها المالية وتنفيذ المزيد من المشاريع التنموية التي ستساهم في المزيد من التنوع الاقتصادي، وزيادة معدلات النمو، وتحسين مستويات المعيشة.

ومن خلال هذه التطورات تتضح بعض الحقائق الخاصة بالأوضاع العالمية، فالنتيجة التي يمكن الخروج بها، هي أنه كلما كانت هذه الأوضاع متوترة وتسودها الصراعات، أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار السلع، بما فيها الطاقة ومعدلات التضخم ونقص الإمدادات وتدهور مستويات المعيشة، والعكس صحيح، فمعالجة هذه التوترات ووضع حد للحروب يجد له انعكاسات إيجابية على اقتصادات الدول ويخفض الأسعار ويحقق الكثير من المكاسب التي يستفيد منها الجميع، وتوفر المزيد من الاستقرار للنظام الاقتصادي العالمي.

*خبير ومستشار اقتصادي