يبدو المشهد في الشرق الأوسط اليوم مختلفاً كثيراً عما كان في أكتوبر 1973. فتحت الحرب التي شنتها مصر وسوريا لتحرير أرضهما المحتلة في 1967 الباب أمام مفاوضاتٍ أسفرت عن إنهاء أول فصول الصراع العربي - الإسرائيلي. كانت المعاهدة المصرية - الإسرائيلية في مارس 1979 الفصل الأول في مسارٍ قاد إلى توسيع نطاق السلام. فأصبحت الدول العربية التي وقعَّت اتفاقاتٍ مع إسرائيل خمساً، إلى جانب اتفاق أوسلو الذي لم تتوافر فيه مقومات حل قضية فلسطين. كان البحث عن السلام، ومازال، صعباً رغم كل ما تحقق.

وعندما نعود إلى نقطة البداية، لا يمكن إلا أن نقف أمام دورٍ تاريخي قام به وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر. دورُ يقلُ مثله في تاريخ عمليات صنع السلام، لأنه استلزم قدرةً كبيرةً على قراءة المتغيرات، ومرونةً شديدةً ما كان ممكناً من دونها أن ينتقل بسلاسةٍ من مساندة إسرائيل إلى الوساطة لبناء سلامٍ بدا مستحيلاً في ذلك الوقت.

لم يُضيَّع كيسنجر ما رآها فرصةً تاريخيةً للتحول من الصراع إلى السلام. وتطلب الإمساك بها أن يتحول هو أولاً من طرفٍ مساندٍ لإسرائيل إلى وسيطٍ نجح في إبرام أول اتفاقين تمهيديين في المسار الطويل للتحول نحو السلام. شاء القدر أن يكون كيسنجر هو الرجل القوي في الولايات المتحدة في تلك اللحظة التاريخية، بعد أن انغمس الرئيس الأسبق نيكسون في تداعيات التجسس على مقر الحزب «الديمقراطي» المنافس في «ووترجيت».

ولهذا كان من الطبيعي أن تلجأ إليه جولدا مائير لإمداد إسرائيل بالأسلحة والقذائف اللازمة لقلب التفوق العسكري المصري، الذي كان واضحاً في أيام الحرب الأولى. واستجاب لطلبها، ولكن بطريقة من يُجهَّز رقعة الشطرنج لما بعد الحرب. وما أن سكتت مدافعُها حتى تحرك في مهمةٍ بدت صعبةً لإقناع الطرفين بالتفاوض.

ونجح في مهمته بأسرع مما كان متوقعاً، وشرع في جولاته التي وُصِفت بالمكوكية، مُتَبعاً أسلوب الخطوة - خطوة، لوضع الأساس الذي يُبنى عليه المسار السلمي قبل موعد الانتخابات الأميركية في نوفمبر 1976.

وتمكن من عقد اتفاق فض الاشتباك الأول في سيناء في يناير 1974، ومثله في الجولان في مايو من العام نفسه. وفي الاتفاق الثاني بين مصر وإسرائيل في سبتمبر 1975، بدأ الانتقالُ من الترتيبات العسكرية إلى تفاهماتٍ سياسيةٍ غير مسبوقة. فقد نصت المادة الأولى فيه على اتفاق الطرفين على (أن النزاع بينهما وفي الشرق الأوسط لا يُحلُ بالقوة بل بالوسائل السلمية)، وأن الهدف هو (سلام عادل ودائم وفقاً لأحكام القرار 338).

ورغم أنه لم يُقدَّر لكيسنجر أن يواصل البناء على الأساس الذي أرساه، لم يكن ممكناً الوصول إلى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل من دون ما فعله. ولهذا فهو يعتزُ أيّما اعتزاز بدوره ذاك، بل تمنى لو أنه نال نوبل للسلام عنه، وليس عن مهمته السلمية في فيتنام قبله.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية الاستراتيجية.