يسوق العناد الداخلي لدى بني البشر نحو الانجذاب، كشذرات الحديد إلى قوة المغناطيس، إلى كل ما مُنع عنه أو وجد حوله ما قد يبعده عن نطاقه.

ولأن ذلك يعبّر عن حالة لا يمكن العيشُ معها، وجدت القوانين المنظِّمة لتجعل كلَّ مرغوب لا يخرج عن نطاق المسموح به. وقد ينشأ عن ذلك اتجاه يعتمد على الصيغة التشريعية في الحفاظ على المجتمع والبنية النفسية للفرد، فيتم اللجوء للتشريع الذي وضعه الإنسان، وهذا ما شكل على فترات طويلة محور اهتمام المفكرين والفلاسفة حول جدلية الدين والدولة، أو بصورة أخرى التشريع الديني والقوانين الوضعية. ولا يخفى أن لكل منهما آثاراً على السلوك الإنساني وأساسه التنشئة النفسية والتكوين الوجداني العميق.

فالوضعي من القوانين انتهج مبدأ الفرض الإلزامي، وتشكلت نصوصه حول ذلك في ترتيب هيئة العلاقة بين التشريع والأفراد، وهذا من أجل أن يضمن المشرع وجودَ إطار تنظيمي يطبق على الجميع، في القيام بالواجبات وفي اكتساب الحقوق، وبالتالي فإنها تمثل سلسة مترابطة من التعاون والمشاركة المجتمعية الواسعة.

ولكن هذا يبقى معزولاً عن القيم الأخلاقية المنشودة من التسامح والصدق والأمانة وغيرها، فهو منظم بحسب «معادلة» قانونية مقررة. أما حال المنظومة القيمية والأخلاقية فيبقى محكوماً بالتحول الاجتماعي وما يستسيغه المجتمع في كل مرحلة، وبالتالي فالأخلاق في المجتمعات التي تقوم على تشريع قانوني ووضعي منفصل عن المكنون القيمي في الشرائع، تقدم مساحةً من الوجود الأخلاقي، لكن بثوابت هشة يمكن اجتثاثها في أي وقت.. فهي قريبة الجذور، لذا قد لا يتسم وجودها بديمومة سلسة. وهنا نجد ارتباطاً بين الصيرورة القانونية والتشريعية في المجتمعات وبين الفطرة الإنسانية.

وفي قراءة موازية، فإن الإنسان بطبعه يميل للخروج عن المألوف والقفز على كل ما هو معروف، وبالتالي فإن القانون، وإن كان حازماً ورادعاً، إلا أن المشرع لا يمكن حضوره في كل مكان، فحتى لو تمت مراقبة كافة المداخل والمخارج في أي مجتمع. وهنا تبقى الحاجة لما هو أكثر قرباً في المنزل وأكثر جدوى في إدخال التراحم والتسامح بين الفرد وجاره وصديقه، أو مكونات مجتمعه.

وتزيد الحاجة لمثل ذلك في النطاق الضيق والأكثر دقة في حياة الإنسان، وبالتالي فهناك فجوة تظل قائمة داخل النفس البشرية ولا يمكن ملؤها إلا بما يشبه شقها الروحي من التشريع السماوي الملامس للوجدان البشري، وبالتالي مؤثر في توجيه سلوكه، وربما هذا ما دفع الفيلسوف الألماني كارل ماركس ليصف الدين بأنه أفيون الشعوب! غير أننا لا نتفق مع شرحه لهذه المقولة التي انبعثت من قناعته بقوة الدين في سلب حرية الإنسان وتقييد إرادته.

ومن ذلك كله نخلص أولاً إلى التخلي عن العلاقة الجدلية أو حس «الندية» بين كل من الدين والفلسفة، وثانياً لضرورة فهم الدين بصورته الصحيحة السليمة، وثالثاً لمكانة التمازج الديني مع القانون الوضعي الذي ينتج عنه بالضرورة خطاب تنظيمي وتشريعي شديد القرب من الذات الإنسانية، وتقويم إنساني ينظر للبناء الذاتي للأفراد قبل تقييم سلوكياتهم، وذلك من خلال تقريب النظم القيمية والأخلاقية من المساحة القانونية الجامدة، والتعامل مع تلك القيم كثقافة يتعين نشرها وتعميمها، تماماً كما نتربى ونترعرع على حب الأوطان والإخلاص لها، لا سيما أن كل ذلك لا يمكنه التحقق بصورة مكتملة بلا تأسيس وتكوين نفسي روحي جسدي سليم.

إن الوجود الفعلي الملموس للدين والرسائل السماوية، يثبت على الدوام سمو الحكمة الربانية وأهميتها في الواقع المعاش، وأن الأديان تُدخَل بمجهود العقل الإنساني الدؤوب مع العديد من القضايا والمفاهيم والأفكار، تماماً كما يرشدنا الدين للفلسفة من خلال وجوب التفكر في الموجودات وأسبابها، مما ينتج علوماً وإدراكات معرفية جديدة، ويثبت وجود الله الأحد الصمد سبحانه وتعالى. وقد دل النص القرآني الطاهر على ذلك في أكثر من موضع كقوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ»، وقوله أيضاً: «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ».

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة