للمكتبات حيويتها وحياتها، والمكتبات العامة تحديداً صديقة الطلبة والكتاب والباحثين. ومن حسن الحظّ أنني زرت العديد منها. قبل أيام تجوّلت في مكتبة الشيخ محمد بن راشد في دبي بالجدّاف، وهي مبهرة بكل تفاصيلها. وهذا كله بالإضافة إلى الترتيب والدفء في المكان، والتسهيلات غير المسبوقة للباحثين، فإنها بنظري تميزت بخاصيتين أساسيتين: أولهما: الجانب التقني، فالعناوين متاحة كلها في تطبيقٍ إلكتروني، وبمجّرد طلبك لاحتياجك من المراجع يأتي إليك «الروبوت» بالكتب من طوابق المكتبة السبع، لتكون بين يديك. وفي الطابق السادس كما الأرضي أماكن للمطالعة والبحث والكتابة. والميزة الثانية: أنها لم تهمل كافة شرائح المجتمع، ثمة قاعاتٍ للطلاب وتعليمهم يمكن لولي الأمر حجزها، وكذلك فعاليات مصاحبة، فهي ليست مكتبة جامدة، وإنما لها حيويتها الثقافية والأدبية.

الكتاب الورقي سيبقى، لكنه مرفود بالكتاب الإلكتروني، كلها يكمّل بعضها بعضاً، والتطرف بمعنى المبالغة في تقديس الكتاب الورقي يمكن فهمه على المستوى البحثي. حين نستعيد الجاحظ وخورخي لويس بورخيس وألبرتو مانغويل وإمبرتو إيكو وسواهم من عشاق الكتب، ومدمني الورق، نعرف معنى المكتبة.

ازدانت حديقة مانغويل المعرفية بنوادر من بورخيس، حتى أن مفاتيح كتبه الكبرى تعثر بها على طيف شيخه، خصص لتجربته كتاباً بعنوان:«مع بورخيس»، بين العامين 1964-1968 كانت سنين القراءة لبورخيس، يعلم مانغويل أنه واحد من بين المئات من القراء الذين اقترح عليهم «بورخيس» أن يدخلوا عالم المكتبة والشخوص والقصص والخيال، لكن ماذا عن مكان بورخيس وأثره على هذا الفتى المتطلع نحو الأدب؟!

حين يطرأ على «بورخيس» كتابة نصٍ، يلاحظ على تلميذه قائلاً:«أيمكنك أن تدوّن هذه؟!»، يصف «مانغويل» لحظته هذه:«الكلمات التي نظمها لتوه والتي حفظها عن ظهر قلب. أملاها علي واحدةً واحدةً، مرخّماً الإيقاعات التي يعشق، متلفظاً علامة الترقيم، يلقي القصيدة سطراً إثر آخر، دون أن يضفي الإحساس على البيت التالي، بل بدلاً من ذلك يستريح نهاية كل سطرٍ، ثم يطلب أن تعاد قراءته على أسماعه مرة، مرتين، خمس مرات، يعتذر لهذا الطلب، لكنه سرعان ما يطلب مرةً أخرى، ثم يضيف سطراً آخر».

المكتبات مثل الناس لها شكلها وروحها، حيويتها وأماكنها، طاقتها وكثافتها، فيها يعثر الإنسان على بحثٍ، أو يستدرج مقولة، أو يفهم نظرية، إن المكتبة هي خلاصة أدمغة البشرية التي درجت على هذه الأرض عبر آلاف السنين، تجمع المكتبات بين هيراقليطس وابن رشد وطاغور ورامبو وكونفوشيوس وراولز ونيتشه وأدونيس، تجمع إرث البشرية الممتدة، وأعظم ما تمنحه إياك المكتبات «اختصار طريق الحكمة».


*كاتب سعودي