العدالة في الدنيا قد تكون في تساوي الظلم بين الجميع فقط! وفي بعض المجتمعات، إنْ كان المرء يُعامل وفق ميزات مرئية فماذا عن الميزات غير المرئية أو حتى المتغيرة؟ وهل هو ما يجعل الرد منغلقاً على بيئته المباشرة وثقافته؟ ناهيك عن أن ما يحركه ويوجهه في المقام الأول، هي مصالحه الشخصية فوق كل الاعتبارات الأخرى.بالرغم من التأثر بالأفكار والمعتقدات والظروف والممارسات والسلوكيات التي تحيط بالفرد في المجتمع الإنساني ككل، إلّا أن بعض المجتمعات تقع ضحية لهيمنة الجينات الوراثية والاحتياجات الأساسية للإنسان العاقل!
ومن منطلق آخر، فإن الثقافة تعتبر رمزاً قابلاً للتغيير، وليس فظيعاً بالنسبة للعديد من البشر أن يفقدوا ثقافتهم الأم وتبنّي ثقافة أخرى تصبح هي ثقافتهم الوحيدة التي ينتمون إليها، أو أن تصبح لهم أكثر من ثقافة يشعرون بالانتماء المتساوي إليها، أو لا يشعرون بالفرق بينهما. فالإنسانية ليست لها لغة معينة، وقد يتبنّى الإنسان أكثر من هوية لمحدودية وقته على الأرض، وليتأقلم مع التحديات التي يواجهها أو تفرض عليه، ولكن إنْ كانت جميع البلدان عبارة عن فسيفساء جيني وثقافي، فكيف أصبح التعايش بين البشر في بعض الثقافات المتعددة مدخلاً للصراعات بدلاً من أن يكون جامعاً بينهم؟
مع ظهور الإنترنت تم إنشاء منصات إعلامية وشبكات اجتماعية جديدة أحدثت تغييراً جذرياً في وظيفة المجتمعات العالمية، ولكنها زادت أيضاً من مخاطر وتهديدات ارتفاع وتيرة العنف البدني واللفظي والنفسي والمعنوي والانقسام في المجتمعات، والتجييش الفكري وشيطنة التسامح مقابل نشر وتبنّي وقبول خطاب الكراهية والإقصاء، ولهذا لا يمكن فصل الكلام عبر الإنترنت عن المظاهر غير المتصلة بالإنترنت، بل يمكن استخدامه كمنظور لإستكشاف آليات الكراهية في العالم الحقيقي والعالم الافتراضي كوجهان متطابقان لعملة واحدة، ويغلفهما كذبة تساوي الفرص في ظل استخدام الذكاء الاصطناعي وهو في الحقيقة ليس كما يعتقد الأغلبية.
الذكاء الاصطناعي ربما يصبح سلاحاً يسخّر من خلال البرمجيات المتقدمة وإدارة البيانات الكبرى والخوارزميات بصورة غير محايدة لتوجيه المجتمع الإنساني نحو توجه واحد وفكر واحد، بل والتحكم في العقل البشري في استراتيجية القطيع المنقاد طوعياً. ولا نستغرب إذا عرفنا أن العلوم الحديثة التي نسبت لمجموعة سكانية دون غيرها ساهمت بشكل غير مباشر في الكراهية وتبني الأحكام المسبقة والقوالب النمطية التي تؤدي إلى التمييز عندما يتصرف الناس بناءاً على مواقفهم المتحيزة تجاه مجموعة من الناس.
مهمة الأخلاق تنتهي أحياناً عندما يتهدد بقاء الكائن البشري وتفوقه على الآخر، وحينها يصبح التعايش منةً من القوي على الضعيف ووسيلة وليس غاية.
وأحد العوامل الأخرى التي تثير التحيز هي الموارد التي تحدد التميز، وبفضل المزايا الاقتصادية والعلمية الخاصة للفئات المختارة من المجتمعات. وساهمت الأنثروبولوجيا بمفهومين حيويين أحدهما يتعلق بالجانب العرقي، والآخر هو النسبية الثقافية ونشوء عقيدة أخلاقية غير معيارية تؤكد هيمنة ثقافة واحدة على سائر الثقافات. ويتبع ذلك التمييز الهيكلي والمؤسساتي ضد الأقليات في سلم التميّز الحضاري، أي أن العدد ليس من يحدد الأقلية بل الانتماء للثقافة المهيمنة أو تبنّي أسسها الفكرية والأخلاقية والقيمية، ولذلك يعد التحيّز في بعض الأحيان متجذراً في الهياكل الاجتماعية والصور النمطية، وخاصة في مجال الاتصال والتواصل بين الثقافات مما يعقّد مشهد التعايش السلمي، وهل هو ضد طبيعة البشر الأولى، أو لا يعكس حقيقة أن النزاع والصراع هو الطبيعي بين البشر في تنافسهم على الموارد وفرض القوة والسيطرة؟ أما التعايش، فهو أمر مكتسب ولا يؤمن به أو يملك مقوماته كل المجتمعات ومنافعه ومميزاته تتفاوت بالنسبة للمجموعات البشرية المتنوعة، وهذا التفاوت سببه تباين الوسائل التي يتم بها تحقيق التعايش.!

*كاتب وباحث إماراتي في التعايش السلمي وحوار الثقافات