عام 1989 نشر الفيلسوف، وعالم السياسة الأميركي (من أصل ياباني) فرانسيس فوكوياما مقالاً في مجلة ناشونال انترست، وكان الطرح الأساسي فيه يسوق للديمقراطية الليبرالية بكل تعريفها المفاهيمي الخاص بها عن الحرية والفردية والمساواة والسيادة الشعبية، وطبعاً مبادئ التحرر الاقتصادي بمفهوم ليبرالي. وأن هذه الديمقراطية الليبرالية هي منتهى ما تصل إليه البشرية وما بعدها أي بعد. بمعنى أننا أمام ذروة التطور البشري، وتلك الديمقراطية الليبرالية هي الصيغة النهائية للحكومات في العالم.

بغض النظر عن كيفية تصور وجود هذه المبادئ في المجتمعات البشرية المختلفة، فالناس – كل الناس حسب النظرية- ستتبنى إجماعاً على صلاحية وشرعية الديمقراطية الليبرالية. فلا بدائل أفضل منها. كان المقال الذي نشره فوكوياما في كتاب موسع بعد ذلك بداية حقيقية لمفاهيم سياسية أسست لسياسات حقيقية بنت عليها كثير من الدول الغربية سياساتها، وأولها واشنطن، خصوصاً أن المقال ترافق مع بدايات انتصار المعسكر الغربي على الاتحاد السوفييتي ونظريات البيروستريكا الجورباتشوفية التي أسست للانهيار الاشتراكي العظيم.

روجت نظرية نهاية التاريخ في تفاصيلها «نهاية التاريخ» من حيث تعريفه كتعاقب أيديولوجي للأحداث، بمعنى أن الأيديولوجيا توقفت عن الوجود مع حضور الديمقراطية الليبرالية نفسها، وتطرفت التصورات في النظرية عن حال الآداب الإنسانية كلها التي ستنتهي في متحف التاريخ الذي انتهى بدوره. لقد كانت معظم سياسات واشنطن بعد ذلك تتضمن كثيراً من مفاهيم فوكوياما ونظريته، ومعظم العاملين في السياسة الأميركية من موظفين كانوا تلاميذ نجباء للنظرية، غير أن فوكوياما نفسه كان موظفاً كبيراً في الخارجية الأميركية.

اليوم، وبعد عقود من نظرية نهاية التاريخ التي بشر بها فوكوياما جمهوره الأميركي نجد أن التاريخ لا يزال يعيد نفسه بذات الصياغات البشعة وبالأيدولوجيا التي لم تنته، بل تتمدد وتتسع وتتشظى بنقائضها.

لا يزال العالم يعيش حروبه القائمة على الهويات الأيديولوجية التي رافقت ثورة معلومات تكنولوجية عملت كمسارع في تدفق المعلومات بسرعة هائلة جعلت العالم كله «قرية واحدة» من زوايا التواصل والتشابك والاتفاق والخلاف والاختلاف، لكنه لم يجعل البشرية موحدة، بل فتحت تلك الثورة الرقمية ساحات حروب جديدة افتراضية عمقت الأزمات ولم تلاشها. إثبات فشل النظرية عملياً، وعلى أرض الواقع يجعل الإخفاقات الأميركية المتتالية في تصور السياسيين في واشنطن للعالم قيد المراجعة الضرورية.

فالديمقراطية الليبرالية ليست منتهى الأفكار، ولا ذروة التطور الذي لم ينته بعد. والعالم ممتلئ بالأفكار التي يمكن البناء عليها من خلال التفاهمات والمشاريع التكاملية، والاقتصاد كله تغير مع الثورة الرقمية وأدواتها البينية الجديدة والمختلفة، نوعياً وجذرياً، عن أدوات الماضي، وهذا الماضي يشمل عام 1989 نفسه، الذي دخل متحف التاريخ بقدميه. نحن أمام عالم جديد تصيغه ثورة رقمية جديدة، والإنسانيات على المحك بكل آدابها الكلاسيكية، لكنها باقية بلا شك وتحاول التماهي مع عصر الروبوت الذي صار يخرج من رحم العالم الافتراضي ليعيش معنا على أرض الواقع بكل تفاصيل حياتنا اليومية.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا