يترافق حلول العام الجديد 2024 مع تغيرات اقتصادية عالمية وإقليمية ستجد لها انعكاسات على الأوضاع الاقتصادية على المستويين العالمي والمحلي، مما يتطلب رصد وتحليل بعض هذه التطورات لمعرفة مدى تأثيراتها وتحديد توجهات المستثمرين وتوجهات الإنفاق الرسمية، حيث يعتمد النمو الاقتصادي في جانب كبير منه على حجم هذا الإنفاق ومجالاته، إذ تمكن الإشارة إلى أهم هذه التطورات المرتقبة.
وبما أن القطاع النفطي ما زال يلعب دوراً كبيراً في تحديد توجهات الإنفاق الحكومية وحجمها وتأثيراتها على أداء بقية القطاعات، وبالأخص الفاعلة منها، كالقطاعين المالي والتجاري وقطاع الخدمات، فإن التوقعات الخاصة بأسعار النفط تبدو مبشرةً، حيث أشار بنك «غولدمن ساكس» في شهر نوفمبر الماضي إلى أن متوسط أسعار النفط في العام القادم سيبلغ 92 دولاراً للبرميل وسط طلب قوي وإمدادات ضعيفة، وهو ما أشرنا إليه هنا أكثر من مرة، وذلك مقابل 81 دولاراً للبرميل في العام الجاري، وفق البنك الدولي، مما يعني أن موازنات دول المجلس ستتمكن من التعامل مع عائدات النفط بأريحية تامة، حيث ستوفر العوائد الناجمة عن مستوى الأسعار المتوقعة الإيرادات اللازمة لإصدار موازنات خليجية متوازنة أو بفوائض بدلاً من بعض العجوزات المعلنة.
أما العامل الآخر والذي سيؤثر على الأوضاع الاقتصادية بدول المجلس فيكمن في الانخفاضات المتوقعة لأسعار الفائدة في عام 2024، وهو مؤشر يبدو قابلاً للتطبيق، حيث ثبّت بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي الأسبوع الماضي أسعارَ الفائدة دون تغير في نطاق 5.25-5.5%، وكذلك فعل البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا، إلا أن وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني أشارت في نفس الوقت إلى أن بنك الاحتياط الفيدرالي ينوي تخفيض أسعار الفائدة ثلاث مرات في السنة القادمة مع احتمال أن يكون هناك رفع أخير غير مؤكد في يناير القادم، وهو ما سوف تتبعه البنوك المركزية الخليجية تلقائياً بفعل ارتباط عملاتها بالدولار.
وبالتأكيد سيكون لهذا التغيير انعكاسات متدرجة، إلا أنها أكيدة على الاقتصادات الخليجية التي تأثرت خلال السنوات الثلاث الماضية جراء الارتفاعات المتتالية لأسعار الفائدة والناجمة عن محاولات واشنطن وبروكسل لخفض معدلات التضخم التي وصلت لمستويات قياسية تجاوزت 10-12%، إذ تمكنت هذه الدول من تخفيض نسبة التضخم إلى 3-4% سعياً للوصول للنسبة المستهدفة البالغة 2%.
ولم تكن الاقتصادات الخليجية بحاجة في ذلك الوقت لرفع أسعار الفائدة التي تؤثر على النمو لكونها لم تعان من نسب تضخم مرتفعة، إذ لم تتجاوز هذه النسب 3.5% في كافة دول المجلس، إلا أن ارتباط عملاتها بالدولار لم يتح خياراً آخر غير ذلك تماشياً مع هذا التوجه الذي تأثرت به بعض القطاعات، كالخدمات والعقار والقطاع المالي، حيث عانت بعض الشركات وتدنت أرباحها بسبب تكلفة الإقراض.
ومع بدء مرحلة تخفيض أسعار الفائدة في عام 2024 فإن الأمور ستعود تدريجياً إلى وضعها الطبيعي، إذ أن هذا التخفيض يناسب الأوضاع الاقتصادية الخليجية تماماً، مما سيؤدي إلى زيادة الأنشطة وارتفاع معدلات النمو وتجاوز الشركات والمؤسسات التي تضررت من تكلفة الإقراض وعانت من بعض الصعوبات وتدنّت أسعار أسهمها في البوصات الخليجية وتراجعت أرباحها بسبب التزامات خدمة الديون، حيث سيؤدي انخفاض أسعار الفائدة إلى ارتفاع تدريجي في أرباح هذه الشركات.
وأخيراً، فإن الحديث ما زال دائراً حول إمكانية تعرّض الاقتصاد العالمي لركود جديد في الفترة القادمة، وذلك رغم تجاوز اقتصادات الدول المتقدمة لحالة الخطر والتي عرضتها للركود التضخمي، إلا أنه في حالة الركود فإن ذلك سيؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي، بما في ذلك تجارة السلع والخدمات، حيث سيترك ذلك تداعياتٍ متفاوتةً على مختلف الدول، إلا أن أقل هذه التداعيات ستطال الاقتصادات الخليجية، وذلك بفضل تمتعها بأوضاع مالية قوية ناجمة عن أسعار النفط المرتفعة في السنوات الماضية والتي يتوقع أن تستمر في العام الجديد. ومع ذلك لا بد من مراقبة ودراسة التطورات أولاً بأول لتفادي عنصر المفاجأة، خصوصاً وأنه يُتوقع حدوث تطورات جيوسياسية مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط ستجد لها انعكاسات على الأوضاع الاقتصادية في المنطقة. 
 
*خبير ومستشار اقتصادي