من بين جميع التجارب الاتحادية ومحاولات الدمج المناطقي والإقليمي التي جرت في ما بعد الحرب الكونية الثانية، سواء كان ذلك في المنطقة العربية أو في آسيا أو أفريقيا أو أميركا الجنوبية أو في أوروبا، قيام الاتحاد في دولة الإمارات يختلف كثيراً عن جميع التجارب التي قامت بها الأمم الأخرى والمرتكزة على التجمع الاقتصادي تقليداً لما قامت به دول السوق الأوروبية المشتركة في بادئ الأمر. وبالنسبة لمن يرغب في فهم تجارب الأمم الأخرى في هذا السياق، فمن المفيد له السعي إلى تتبع وتحليل العوامل الرئيسة لهذا الاختلاف الجذري في النشأة والظهور، وهو أمر ليس بوسعنا العرض له في هذه السطور، لكن من المهم الإشارة إلى أن قيام اتحاد دولة الإمارات هو قيام متميز وله مقوماته وعناصره الخاصة.

ويعود تكون الفكرة حول هذا التميز إلى متابعة دقيقة ومطولة امتدت منذ عام 1968 حين أعلنت بريطانيا استراتيجيتها الجديدة آنذاك بنيتها الانسحاب من المنطقة بشكل نهائي سياسياً وعسكرياً في ما أسمته باستراتيجية شرق السويس؛ ومن تعمق علمي سياسي صقلته الدراسة والقراءة العميقة والمطولة.

وبالنسبة لتطور فكرة الاتحادية حول العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فلعقد كامل تقريباً فيما بعد ولادة جماعة الفحم والحديد الأوروبية، زودت أوروبا الغربية العالم بنقطة البدء المركزية لدراسة الدمج الإقليمي وتشكل الاتحادات، لكن محاكاة التجربة الأوروبية في الترتيبات التجمعية - الاتحادية الأخرى تثير لدى العديد من الدارسين - ومنهم محدثكم - العديد من المناظير ذات الطبيعة الاختلافية لتطبيق ما زاد أو قل من نفس المبادئ والمقولات والمناهج على الاتحادات والتجمعات الإقليمية اللاحقة، ومنها اتحاد دولة الإمارات، من دون الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات والعناصر الثقافية الأصلية الخاصة بالمناطق التي تظهر بداخلها تلك الاتحادات.

لكن دعونا نطرح سؤالاً: ما نوع الدرس الذي علمته التجربة الأوروبية في الاتحادية لتلاميذها؟ إن الإجابة الأكثر دقة على هذا السؤال يقدمها لنا كاتبان غربيان، هما: ايرنست هاس وفيليب شميتر، حيث يشيران إلى أن الدمج الاقتصادي يتقدم على معظم التراتبات السياسية الجاهزة، وهو الأكثر سرعة أينما تواجدت شبكة عمل سابقة للدمج.

إن تجربة أوروبا الغربية تقترح بأن الدلالات السياسية المتعلقة بالاعتماد المتبادل تبدأ بالدمج الاقتصادي وتصبح واضحة بسرعة حينما وأينما تحوز الأقطار المعنية بنية نخبوية منفتحة ونوع من الجماعية السياسية التي تؤسس فيها كل جماعة محددة في قطر ما قيماً عامة مشتركة وتقوم بتشغيل مصالح مشتركة مع العدد المقابل لها من الجماعات عبر الحدود. وأخيراً يتطوّر وينمو نمط من الولاءات الإقليمية عوضاً عن المحلية الضيقة.

ويصاحب ذلك القدرة على إقناع المواطنين بالمشاركة في صياغة السياسات والمطالبة بفوائد وعوائد اقتصادية يمكن أن تكون مرتبطة بسياسات الدمج المزمع القيام بها. فإذا كانت تلك هي الصور، وتلكم هي الخلفيات والاشتراطات الضرورية اللازمة لقيام وبقاء الاتحادات هل لحقيقة أن معظم محاولات الاتحادية في العالم النامي فشلت في أن تنتشر أو حتى أن تنطلق معنى خاصاً بالعالم النامي وحده؟ وهل يمكن أن يعزى ذلك الفشل إلى غياب تواجد العوامل اللازمة؟

لكي تتم الإجابة بتيقن على مثل هذه التساؤلات لا بد من معرفة أن معظم المناطق في العالم النامي لا زالت مسيطراً عليها من قبل بنى اجتماعية غير جماعية وبمستويات متدنية من وعي جماعات المصالح بأهمية التجمع والاتحاد، ومشاعر مرتفعة من ضيق أفق التفكير والخصوصية المحلية، وهنا يكمن مربط الفرس في تميز قيام الاتحادية في دولة الإمارات، حيث سارت الأمور بعكس ذلك تماماً ولم تنطلق المسألة الاتحادية من التجمع الاقتصادي، بل من منطلقات سياسية - أمنية أفرزت اتحاداً عتيداً منيعاً يبهر العالم في كل خطوة يخطوها وكل مسألة يقدم عليها. بل إنه كلما مر الزمن كلما قويت الدولة الاتحادية وزاد شعبها تشبثاً بما لديهم من مكونات ومقومات ثقافية وتراثية وطنية لكي تبقى الدولة الاتحادية باقية ما بقي الدهر.

*كاتب إماراتي