ما كنت أقصد إلى إعادة قراءة موضوع الغرب أو مسألته، لولا أن الموضوع فرض نفسه بمناسبة حربي أوكرانيا وغزة! لقد وجدتُ كتاباً صغيراً للفيلسوف الفرنسي فيليب نيمو عنوانه «ما الغرب؟»، وكتيباً آخر لريجيس دوبريه ورينيه جيرار عنوانه «ماذا تبقى من الغرب؟» هو عبارة عن حوارٍ طويلٍ بينهما في الموضوع. الكتابان أدنى إلى الموضوعية، لأنه مضى عليهما عقد من الزمان. لكن عندما جرى تأليفهما كانت هناك ظروف اقتضت ذلك أيضاً. فكتاب نيمو رسالةٌ تصديقية على أثر نجاح «الغرب» في الحرب الباردة. أما حوار دوبريه ورينيه جيرار فهو شديد التشكيك في صورة الغرب عن نفسه بعد التخلي عن أيديولوجيا «القوة الناعمة» والمسارعة إلى شن الحروب مثل حربي أفغانستان والعراق. كتاب فيليب نيمو يقرأ صورة الغرب عن نفسه وكيف تكونت تلك الصورة ومصائرها الواعدة: من المعجزة الإغريقية في المدينة وفي صنع العلوم والتقدم، إلى المساهمة الرومانية في القانون الخاص والمذهب الإنساني، مضافة إليهما الأخلاقيات اليهودية والمسيحية في الإيمان والمحبة، وصولاً إلى ظهور الديمقراطيات الليبرالية حيث ازدهر المفهوم الغربي للحياة الإنسانية وتبلور الوجه الكوني للثقافة الغربية الذي عاد للظهور بقوةٍ إثر انتهاء الحرب الباردة لصالح الغرب.
أما حوار ريجيس دوبريه ورينيه جيرار فمختلف، فجيرار صاحب نظرية في ارتباط العنف بالحضارة (الغربية)، أما دوبريه فهو يساري سابق وراديكالي، وقد تراجعت يساريته، لكنّ راديكاليته لم تتراجع. وكلا الرجلين يتحدث عن قيم زمان التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر. بيد أن قيم الحرية والعدالة والتسامح هذه جرى انتهاكها في الزمن الاستعماري الطويل.. فهل لا يزال الغرب بعد هذه التجارب هو غرب التنوير والحريات؟
في هذا السياق التاريخي المعقد يذكر الغربيون لأنفسهم، وبخاصةٍ الأميركان، القتالَ ضد الفاشية، وإنتاج ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونصوص دساتيرهم التي تؤكد على قيم التنوير وحقوق الإنسان. ويستدلون على جوهرية القيم لديهم بالانتصار في الحرب الباردة من دون سيفٍ ولا حروب، بل بسبب التفوق الأخلاقي، بحيث عهدت البشرية إليهم بمصائر الحضارة ورسالة الإنسانية!
جاءت الحرب الأوكرانية لتطرح على «الغرب» قضيةً صعبةً هي الدفاع عن مثال الدولة السيادية. وما كان الأوروبيون ليواجهوا التحدي لولا الحماسة الأميركية التي تجلت في سلاسل الدعم الهائل، باعتبار كل ذلك دفاعاً عن الحق في الحرية والسيادة. وبالطبع دخلت أوروبا في العملية على تردد، إما لأنها ما أرادت مواجهة روسيا للتفاوت في القدرات العسكرية، أو خشية أن تتراجع الولايات المتحدة البعيدة عن المسرح الأوروبي. ثم أولاً وآخراً لأنه لا غنى عن روسيا.
وجاءت الحرب الإسرائيلية على «حماس» مختلفة في طبيعتها ومسارها. فقد دعم الغرب كله إسرائيل لأنها تعرضت للهجوم. لكنّ المنطق العلني الذي ساد أن معاداة إسرائيل هو عداءٌ للسامية، ولا بد من حماية الإسرائيليين لأنهم يهود وقد عانوا كثيراً في الهولوكوست وهم يتعرضون الآن لحرب إبادة!
ليس الموضوع الآن الصحة من عدمها، بل مفهوم «الغرب» باعتباره مثالاً للنزعة الإنسانية، وهو الأمر الذي يشكك فيه كثيرون استناداً إلى وقائع وعلائق ودبلوماسيات ومعايير مزدوجة.

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية