عندما بدأت روسيا في فبراير2022 عمليتها العسكرية في أوكرانيا، توقع البعض أن تكون عملية سريعة، إن لم تكن خاطفة، وفات على هؤلاء تقدير أهمية الصراع في سياق محاولات الدول غير الراضية عن بنية النظام الدولي القائم لتغيير هذه البنية. ومن هنا فإن كسب روسيا للحرب في أوكرانيا يكتب شهادةَ وفاة النظام الدولي القائم على نموذج الأحادية القطبية الذي تنفرد الولايات المتحدة بقيادته، ولذا سارعت بتقديم أقصى دعم ممكن للمجهود الحربي الأوكراني، مما حوَّل المواجهةَ في أوكرانيا من مواجهة روسية أوكرانية إلى حرب شبه عالمية بين روسيا من جانب والتحالف الغربي من جانب آخر، مع رفض العديد من القوى الدولية، الكبرى والمتوسطة والصغيرة، المشاركة في العقوبات على روسيا أو حتى تخفيض العلاقات معها.
وظهر أثر الاستقطاب الروسي الغربي واضحاً على تطورات القتال، فقد صمدت أوكرانيا على نحو لم يكن ليتحقق لولا الدعم الغربي لها، وبالذات الدعم الأميركي، حتى بدا في مرحلة أن أوكرانيا قد انتقلت من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، وتمكنت من استرداد بعض أراضيها وإن كانت نسبته قليلة، واضطُرت القوات الروسية إلى إعادة التموضع في خطوط دفاعية أقوى. وقد فتحت هذه التطوراتُ المجالَ لحديث من دوائر غربية عن سيناريو «هزيمة روسيا». وقد فات على هذه الدوائر أيضاً أنه بافتراض كون الهزيمة الروسية ممكنة في الحرب التقليدية الدائرة، فإن المتغير النووي يجب أن يؤخذ بالحسبان في هذه الحالة، أي حالة احتمال تعرض قوة نووية كبرى للهزيمة، وهي الحالة التي تحتم استخدام السلاح النووي، خاصة وقد أصبح هذا ممكناً بفضل تطوير أسلحة نووية تكتيكية محدودة القدرة التدميرية، ولم تدخر موسكو وسعاً في التلميح إلى جاهزية هذا البديل وقت اللزوم.
ومع مرور الوقت بدأ نوع من التململ في المعسكر الغربي بسبب كثافة الحاجة الأوكرانية للأسلحة نتيجة القدرة الروسية على إلحاق خسائر جسيمة في القوات والمعدات الأوكرانية. وكان واضحاً أن تلبية هذه الحاجة أصبحت أمراً مكلِّفاً من ناحية، ويمثل تهديداً للمخزون الاستراتيجي الغربي من السلاح من ناحية أخرى، وذلك في وقت لم تظهر فيه أي بوادر على تراجع الأداء الروسي، أو على وجود استياء شعبي داخلي يهدد الاستقرار، أو على أن ثمة نية لدى القيادة لتغيير الأهداف أو حتى إبداء بعض المرونة بشأنها.
وكثرت التصريحات الغربية المنتقِدة للسلوك الأوكراني، وربما كان أشهرها تصريح وزير الدفاع البريطاني السابق بخصوص نظرة أوكرانيا للغرب وكأنه «متجر أمازون» للسلاح. كذلك بدأت الاعتراضات تظهر داخل دوائر الكونجرس الأميركي، وبالذات «الجمهورية»، إلى أن وصل الأمر إلى رفض الكونجرس اعتماد مزيد من التمويل الدفاعي لأوكرانيا، وهو تطور فارق بالنسبة للقدرة القتالية الأوكرانية طالما أن الولايات المتحدة هي المصدر الأكبر لدعمها عسكرياً.
وأخيراً، وليس آخرا، وقعت المواجهة الراهنة في غزة التي أكملت شهرها الثالث، ونافست الحربَ في أوكرانيا على قائمة الأولويات الأميركية، بالنظر إلى مكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة، ناهيك عن زيادة الضغط على الموارد الأميركية بسبب الزيادة غير المتوقعة في الطلبات الإسرائيلية من الأسلحة والذخائر، وبالتالي تفاقم الخطر القائم أصلاً على توقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا. وبموازاة ذلك لوحظ تحقيق القوات الروسية تقدماً عملياتياً بارزاً، ولا يعني هذا بالضرورة أن نهاية الحرب وشيكة، لكنه قد يعني أن العد التنازلي لهذه النهاية قد بدأ بالفعل.

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة