ينطوي الفصلُ الثاني من المعركة بشأن تطبيق «تيك توك» في الولايات المتحدة الأميركية على جديدٍ مُهم مقارنةً بسابقه في عام 2020. وما يجمعُ الفصلين هو سعيُ واشنطن إلى مواجهة ما تعتبرُه خطراً يُشكِّلهُ هذا التطبيق الذكي على أمنها القومي. والجديدُ الآن في هذا الموضوع هو أن المواجهة تعتمدُ على تحركٍ لإصدار تشريعٍ يفرض على شركة «بايت واتس» الصينية، مالكة التطبيق، بيعَه لمستثمرين أميركيين، وإن لم تفعل خلال ستة أشهر فإن الولايات المتحدة سوف تقوم بحظره. وقد تبين في الفصل الأول من هذه المعركة أن محاولةَ حظر «تيك توك» عن طريق أوامر تنفيذية ليست مجديةً، بعد أن أبطل القضاء أمراً كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد أصدره بهذا الخصوص.
ولهذا لجأت إدارة بايدن إلى الكونجرس لإصدار تشريعٍ جديد يُحصِّن أيَّ قرارٍ يصدر بحظر «تيك توك». ومرَّر مجلس النواب الشهر الماضي مشروع القانون المذكور، وذلك تحت عنوان «حماية الأميركيين من التطبيقات الخاضعة لرقابة خصوم أجانب»، إذ أجازه بأغلبيةٍ كبيرة (352 صوتاً مقابل 65 صوتاً). وأصبح المشروعُ في عُهدة مجلس الشيوخ، حيث يُتوقعُ أن تستغرقَ مناقشتُه والتصديق عليه وقتاً أطول.
لكن المُهم الآن هو أن قلق واشنطن من هذا التطبيق لم يعد البُعد الوحيد في المعركة الدائرة حوله. ومع ذلك مازال هذا هو البُعد الرئيسي، لأن نحو 170 مليوناً، أي نصف الشعب الأميركي تقريباً، يستخدمون التطبيقَ ويتأثرون بمحتواه حسب اعتقاد الدوائر الرسمية في واشنطن. كما أنه كلما احتدم التنافسُ الاستراتيجي بين واشنطن وبكين، ازداد سعيُ كلٍ منهما إلى حرمان الثانية من أدواتٍ قد تُفيدها أو تعزز وضعَها في هذا التنافس.
غير أن هناك ما يدل على وجود بُعدين آخرين جديدين في الفصل الثاني من معركة «تيك توك». أولهما أن هذا التطبيق بات مُغرياً لشركات أميركية كبرى تطمح إلى شرائه والاستحواذ عليه.. فقد بلغت إيراداتُ نسخته الأميركية منه، خلال العام الماضي (2023) أكثر من ثلث إجمالي إيرادات الشركة المالكة نفسها (46 مليار من حوالي 120 مليار دولار).
أما البُعد الثاني فهو أن هناك في فريق الرئيس جو بايدن مَن يعتقدون أن تطبيق «تيك توك» يُفسِحُ مساحاتٍ أوسع للأصوات المُطالِبة بتدخلٍ أميركي أقوى لوقف إطلاق النار في غزة، ويُسهِم بالتالي في ازدياد الضغوط على الإدارة لتغيير سياستها في هذا الشأن. وربما تزدادُ أهمية هذا البُعد كلما اقترب موعدُ الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل، وخاصةً إن لم يتم التوصل إلى اتفاقٍ على هدنةٍ وتبادل أسرى، أو قامت إسرائيل بعمليةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ في رفح من دون اتخاذ إجراءاتٍ كافية للحد من أثرها على المدنيين.
وهكذا يبدو أن حظر «تيك توك» أصبح قراراً ضرورياً بالنسبة لإدارة الرئيس بايدن وحملته الانتخابية، وليس للدولة الأميركية فقط. لكن الإقدام على قرار من هذا القبيل قد يكونُ خطوةً جديدةً في مسار تراجع الديمقراطية التي تُمثِّلُ إحدى أهم الأدوات التاريخية للقوة الناعمة الأميركية في العالم. وإذا حدث هذا فهو يعني إضعاف أداة أساسية من أدوات قوة أميركا الناعمة، في مقابل حرمان بكين من استخدام إحدى أدوات هذه القوة لديها. حقاً لا يوجد مكسبٌ كاملٌ أو صافٍ في الصراعات الدولية. وهذا درسٌ مهمٌ من دروس التاريخ الذي يُخبرُنا أن التعاون الدولي خيرُ وأجدى وأنفع للجميع.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية