منذ قرابة الأربعة عقود ما عادت الدولة الوطنية خياراً بل هي ضرورة وجود وحياة للحاضر والمستقبل. منذ سبعينيات القرن الماضي تتكرر التجارب الفاشلة نفسها؛ أي تتحطم المجتمعات والدول بفعل الثوران العبثي الذي يجلب المزيد من عدم الاستقرار، واستئساد المليشيات على المجتمعات وعلى بُنى الدول التي تَغرق في مستنقعات الاضطراب وازدياد التبعية للخارج.

وكل محاولةٍ للنهوض تواجَهُ باتهامات الاستسلام، وكأنما الحلول تكمن في الخضوع لمليشيات الداخل والخارج. وتتوالى إعلانات الجهات الإنسانية أيُّ المجتمعات في العام 2023 كانت الأكثرَ عرضةً للمجاعة وهلاك الأطفال، هل في غزة أم السودان أم دولة ثالثة عربية غالباً؟ وباستثناء الدول الوطنية في الخليج العربي، التي تدفع في مسارات الاستقرار والتنمية وصنع الجديد لشعوبها، والتضامن فيما بينها، تتوالى الهبّات المكررة بنفس الحدة ونفس التدمير، في بلدان «الشرق الأوسط» ضاربةً معها كل إمكانيات التعقل ورعاية المصالح وترميم بقايا مؤسسات الدول المتهالكة تحت وطأة العنف والفساد والإفساد. ما هي الدولة الوطنية؟ هي الكيان الذي مر بتجارب القرن العشرين باتجاه البناء والإعمار ووحدة الأرض والشعب. ووسط تضارب المصالح الإقليمية والدولية، تعرقل بناء المؤسسات، وخاضت المليشيات المتكونة على ضعف الدولة حروباً شعواء لتقاسم السلطة أو الاستيلاء عليها.

وإذا استعرضنا الأحداث السياسية والأمنية في تلك البلدان، نجد أنه وخلال عقود ما بُنيت طريق، ولا تحققت تنميةٌ، ولا حصل المواطنون على شيء من حقوقهم، وصارت ثروات تلك الدول غنائم لمليشيات العنف التي لا تستحي أن تحمل شعارات التحرير والنهوض والاستقلال. تمضي الدول الوطنية في الخليج باتجاه البناء والتنمية المستدامة، كما تتجه لصنع شراكات التعاون والتضامن وعقد الاتفاقيات الاستراتيجية مع دول العالم كبيرها وصغيرها. ولا تنسى ولا تُهمل خلال تطورها الكبير الالتفات إلى الأشقاء والأصدقاء وخوض الوساطات للأخذ بأيديهم في خطوات الإنقاذ والتفكير بالبدائل، وإحلال ثقافة الدولة محلَّ ثقافات العنف والمشروعات الوهمية والانتفاضات الانتحارية. الدول الوطنية الحقيقية يسود فيها التفكير بالحاضر وتوسيع إمكانيات العمل المستقبلي الوطني والإقليمي والعالمي.

وفي أحداث غزة المفجعة كانت تلك الدول وما تزال في المواقع المتقدمة لمساعدة أهل غزة في البر والجو والبحر. فمن الذي يهمه أمر غزة والشعب الفلسطيني في الحقيقة؟ الذين يتبادلون إطلاق النار مع الجيش الإسرائيلي بحجة التضامن مع غزة المنكوبة، أم الذين يساعدون بالفعل، ويستقبلون المصابين والمنهكين، ويسعون لوقف إطلاق النار بشتّى الوسائل، ويعملون مع الجهات الدولية والدول الكبرى من أجل الحلّ الذي يمكن أن يصنع سلاماً دائماً من خلال إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية؟ في الحرب الخامسة بقطاع غزة وعلى قطاع غزة، أين هي الانتصارات التي تحقّقت بالثوران وبدعاوى التحرير؟! الحرب الخامسة كالحرب الأولى. نفس البدايات ونفس الممارسات ولا مكسب غير زيادة الخسائر وإبعاد الحلول السلمية. ولا يظنّن أحدٌ أنّ ذلك كله حصل في غزة فقط، بل هو المسار نفسه في لبنان وسوريا واليمن.

تُدمَّر الأوطان ويجري التعزي بهذا الهجوم أو ذاك في البر والبحر والمسيَّرات والصواريخ ويجيب الإسرائيليون وحلفاؤهم بهجمات الخراب وحروب الإبادات وذلك بحجة الحماية في البر والبحر والجو أيضاً! هما مساران واضحان مستمران لعقود؛ الأول استقرارٌ وازدهارٌ وعلاقاتٌ للندية والتعاون السلمي.. والآخر دمارٌ وقتلٌ وأمواج من المهجرين الذين فقدوا مساكنهم وأطفالهم ومزارعهم وما بنوه بالعرق والدموع لأعوام وأعوام. إنّ دوام الحال من المحال، والنار تأكل بعضَها دائماً إن لم تجد ما تأكله.. وهو عار التاريخ والحاضر أمام أجيال البؤس التي تتعاقب بدون نهاية: «إنما الأُمم الأخلاق ما بقيت/// فإن هم ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا».

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية