كعادتها، كل عام تُصدر وزارة الخارجية الأميركية تقريرها المعروف بتقييم حالة الحريات الدينية حول العالم، وهو أحد التقارير المهمة والتي عادةً ما تثير الجدل، وذلك بسبب التقديرات التي تراها واشنطن. وقد تساءل بعض الأميركيين، ذات مرة، عن حتمية إصدار مثل هذه التقارير، والتي تستجلب غضبة من دول عديدة، تعاني فيها الحريات الدينية من تضييق مزمن، وكيف أن مثل هذا الأمر يمثل عقبة في طريق رواج الحلم الأميركي حول العالم.
والشاهد، أنه حتى نفهم ما وراء هذا التقرير، ربما يعني لنا الرجوع إلى جذور العلاقة بين الحريات الدينية وبين الدولة الأميركية، تلك التي ولدت من رحم المعاناة الدينية والمذهبية التي عرفتها القارة الأوروبية في القرون ما بعد الوسطى، ودعت المئات ثم الآلاف للهجرة إلى الأرض الجديدة، أرض أميركا، تلك التي اعتبرها الآباء المؤسسون بمثابة أرض كنعان الجديدة، الخالية من الاضطهاد الديني أو كبت الحريات العقائدية.
تتقاطع بالإيجاب مسالة الحريات الدينية في المفهوم الأميركي، مع وثيقة الحقوق الأميركية للعام 1791، والتي تتألف من عشرة بنود تشكل العمود الفقري للدستور الأميركي.
يشير البند الأول إلى أنه:«يحظر على الكونجرس تشريع أي قانون يؤدي إلى عدم ممارسة أي دين، أو تشريع أي قانون يؤدي إلى تعطيل حرية الكلام أو النشر الصحفي أو حق الناس في إقامة تجمعات سلمية، أو إرسالهم عرائض إلى الحكومة تطالبها برفع الظلم».
يفيد البند الأول من وثيقة الحقوق، وبحسب ما طبقته المحاكم الأميركية لأكثر من 80 سنة، بأن أميركا دولة فريدة بين بلاد العالم، من حيث منعها الحكومة على كافة المستويات الاتحادية أو الولاتية أو البلدية من إملاء رغباتها على الناس، من حيث كيف يمارسون اهتماماتهم وعباداتهم، ومع من يجتمعون، وماذا يطالبون المسؤولين.
من هذا المنطلق، يمكن لأي باحث في الشأن الأميركي أن يدرك أهمية تقرير الحريات الدينية، وانعكاسات رؤاه على الرأي العام، وعلى بقية المؤسسات الأميركية الحكومية والمدنية على حد سواء. جاء تقرير هذا العام ليجعل من الإمارات العربية المتحدة ومن دون مبالغة، نقطة إيجابية في سماوات الحرية الدينية، عربياً، وإسلامياً، وشرق أوسطياً، وآسيوياً، معاً مرة واحدة.
خلال المؤتمر الصحفي، الذي قدم فيه وزير الخارجية الأميركي، «مايك بومبيو»، رؤيته وقراءاته لوضع الحريات الدينية في العام الفائت، كانت الإشادة بالإمارات واضحة وضوح الشمس في ضحاها، وقد توقف المسؤول الأميركي الكبير أمام الإمارات، التي تكفل حرية الممارسة الدينية بموجب الدستور والقانون، والتي تتيح قدراً كبيراً ووافياً من التسامح الخلاق والإيجابي داخل المجتمع الإماراتي تجاه الأقليات الدينية.
يتوقف التقرير الأميركي، بنوع خاص، أمام سماح السلطات الإماراتية الحاكمة، بوجود معبدين على أراضيها، واحد هندوسي، والآخر سيخي. والسؤال لماذا هنا تحديداً يبدو المشهد مغايراً لما هو مألوف في الشرق الأوسط؟
باختصار غير مخل، لأن رحابة الابستمولوجيا، تتسع كثيراً جداً حال مقاربتها بضيق الأيديولوجيا، أو أحادية الدوغمائيات القاتلة، وبكلام أكثر سهولة ويسر، فإنه يمكن للمرء أن يتخيل وجود كنائس في الإمارات، وهذا مقبول، فالمسلمون والمسيحيون في نهاية الحال والمآل هم أبناء إبراهيم عليه السلام، أي أنهم في الخاتمة من الموحدين.
غير أن السماح بقيام معابد لشرائع ونواميس يراها أبناء إبراهيم على أنها «وضعية»، فإن هذا غير معتاد أو مألوف، ويحتاج إلى شجاعة أدبية، تقف في وجه دعاة الأصولية، وأولئك الذين يحاولون اختزال الإنسانية برمتها قي ثوب واحد، ولون واحد، ديني أو فكري.
لم يكن لتقرير الحريات الدينية أن يغفل ذلك المشهد، الذي سيحفظه التاريخ لعقود وربما قرون طوال، أي مشهد زيارة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، إلى الإمارات، والسماح له بمودة وحرية كاملة بإقامة أول قداس حسب الطقس اللاتيني الكاثوليكي في أكبر استاد في أبوظبي، وبحضور عشرات الآلاف من أكثر من سبعين جنسية، قدموا فسيفساء نادرة الوجود على أرض التسامح والتصالح، الأرض التي ينطبق عليها القول إن الوطن مودات، وبنفس القدر شراكة أحلام.
ضمن النقاط المضيئة للإمارات في تقرير هذا العام للحريات الدينية، يأتي الربط بين العملية التعليمية والحرية الإيمانية، فالأمر لا يتوقف فقط عند حدود مباشرة شعائر دينية بحرية واحترام، بل يمتد وبحسب نص التقرير إلى سماح حكومة الإمارات، بتقديم دروس مصممة خصيصاً لتناسب الخلفيات الدينية للطلاب.
تمثل مسالة الحريات الدينية بالنسبة لإدارة الرئيس ترامب أهمية كبيرة، أما بومبيو، فالرجل له ميول أيمانية واضحة للغاية، وعنده أن الذين يحترمون حريات الآخرين، يستحقون أن يرتقوا إلى مصاف الكبار حقاً وقولاً، وهذه هي في واقع الأمر نظرة أميركا والأميركيين اليوم للشعب الإماراتي ولقيادته، ذات الدالة الكبرى على التسامح والتصالح.
*كاتب مصري