من المؤكد أننا فى حاجة إلى خطاب ثقافي جديد، ذلك لأن الخطاب الثقافي القائم هو خطاب يعكس هوان أوضاعنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ولذلك فهو خطاب لا ينطوي على احترام المخالفة، أو قبول مبدأ الحوار، أو تعدد الأصوات، وإنما هو خطاب أحادي الجانب والصوت والنبرة، خطاب قطعي قمعي، ينطوي على إيمان باحتكار الحقيقة والمعرفة والصواب، وهو خطاب ازدواجي يقول في ظاهره ما يناقض واقع ممارساته، ولا أدل على ذلك من أننا، نحن المثقفين، نتحدث عن حق الاختلاف، وعن أن الاختلاف لا يفسد للودّ قضية، ولكن إذا اختلف معنا أحد، فالويل له، وما أسرع ما نستبدل بالرد الهادئ الهجوم العنيف، غير بعيدين عن لغة الاتهام، ولذلك فما أكثر ما يتسم خطابنا في الثقافة، وفي غيرها، بالعنف الناتج عن عدم إيماننا الفعلي بمعنى المجادلة بالتي هي أحسن، فقد تركنا هذا المعنى واستبدلنا به مبدأ المجادلة بالتي هي أقمع· ويبدو أننا نطبق، في هذا النوع من خطاب العنف، مبدأ اختلاف الأمة على نيف وسبعين فرقة، كلها في النار، ماعدا واحدة· ويبدو أننا في فعل ممارسة خطابنا الثقافي أو الديني أو الفكري بوجه عام، نؤمن أننا الفرقة الناجية الوحيدة، وأن كل من يختلف عنا يقع في دائرة الفرق الضالة المضلة، ولذلك نزداد اعتزازاً بما نذهب إليه من آراء، وما نمارسه من مواقف، ولا نقبل اختلافاً من أحد، أو مساءلة لما نفعل وكيف ذلك؟ وكل من يخالفنا لابد أن يكون على ضلالة، ولذلك لا نعترف، في داخلنا، بأن الحقيقة هي نتاج الحوار بين الأطراف المتكافئة، وأن المعرفة ثمرة جهد حواري مشترك بين الناس· وعيب آخر من عيوب خطابنا الثقافي المعاصر هو النبرة العالية، ذات الطبيعة الخطابية والإنشائية· أعني أنه خطاب لا يتميز بالدقة العلمية، ولا يتمتع بالنبرة الهادئة للصوت الخافت؛ وإنما هو خطاب مرتفع الصوت دائماً، تقترن محاولات الإقناع فيه بارتفاع الصوت، كأن الآخرين لن يقتنعوا بما نقول إلا إذا رفعنا صوتنا إلى الدرجة التي تخفت كل صوت معارض· وربما كان هذا هو السبب الذي جعل القصيمي يصف العرب بأنهم ظاهرة صوتية، بل يجعل هذه الصفة عنواناً لأحد كتبه التي تستحق الاهتمام ومعاودة القراءة· ولكن الذي تحدث عن العرب، من حيث هم ظاهرة صوتية، لم يجد الكثيرين الذين يهتمون بكتابه أو يناقشون ما به من آراء، فقد سكتوا عنه وتجاهلوا الكتاب وصاحبه فيما يشبه العقاب وهذا يقودني إلى آخر صفات خطابنا الثقافي، وهي صفة التجاهل لما لا نرضى عنه أو لا نوافق عليه، كا لو كان الصمت عنه يمحوه من الوجود