سقط عن يد القاص البصري محمود عبدالوهاب عكازه الذي توكأ عليه في أيام مرضه الأخيرة. رحل مقتفيا في الشتاء اثر رائحة الشتاء في قطار صاعد صوب المجهول الذي سيعثر فيه على أسرته وسلامه وعافيته. وتلك كلها لم تتيسر له في حياته المختومة بعكاز يستحضر السياب أواخر سنواته وحلمه بالعودة إلى البيت (مشّاءةً دون عكازٍ به القدمُ)، ورامبو راحلا في محفّة من عدن صوب مارسيليا بعكازجحيمي. أثقال وهموم تختبئ في اليد الممسكة بالعكاز. ولكن أهو ثقل السنوات والتجربة والمعرفة؟ يقول القاص محمد خضير القرين لمحمود في الوفاء للقصة القصيرة فناً، والبصرة إقامةً، في مناسبة احتفائية: “لا أعجب ان يتعكز القاص محمود عبد الوهاب على عصا لا عن تقدم في السن، وانما عن ثقل في الأفكار، فرأسه مملوء بالأفكار”. القاص المقل راحل بمجموعة قصصية هي استعادة لكثير من ماضيه السردي في القصة القصيرة، ورواية تتشظى كالنصوص القصصية في فصول وأجزاء، يطل على اهتمامات متنوعة، كالسينما التي عرفها متقبلا لعروضها وعاملا في إدارة إحدى دورها حين ضاقت به سبل العيش وحرم من وظيفته. حرمانات اختيارية متعددة تعرضت لها صفحات حياة محمود عبدالوهاب يذكر عارفوه في مقدمتها فقدان استقراره الأسري. لم يوصَل بلامِه باءٌ في حبل النسل كما سخر المعري من قبل، معبّرا عن اختياره العزلة!. سافرمحمود كثيرا وعاد بخزين يسرده بهيئات مختلفة.. لكنه يستعيض عن السفر بالغور في أعماق الشخوص والأمكنة.. ويصف موغلا في ثنايا الأشياء والزمن معا.. ولا ينكر في أحاديثه ومقابلاته أنه مقل زاهد بالنشر ويجعل تلك سمة لجيله الخمسيني ولمعلمه في الكتابة القصصية عبدالملك نوري.. يقول محمود عبدالوهاب عن “القطار الصاعد إلى بغداد” من البصرة في قصة بذلك العنوان بأن هذا القطار له “أرجل كثيرة يجري بها.. ويبتلع الأرض بنهم، ثم يتراخى ويزحف: ليقف أخيرا متعبا لاهثا مجهد الأنفاس..”. أكان محمود يلخص جملة حياته ذاتها بوصف القطار ورحلته الحياتية النهمة، ثم صفيره المحموم وتراخيه متعبا مجهدا وتوقفه؟ لقد تم تجييل محمود عبدالوهاب كأحد رواد القصة القصيرة العراقية التي أنعشها الخمسينيون وطوروا أساليبها، لكنه يتميز بانهماكه في الحفر داخل أعماق شخصياته، دون الوقوف عند الخارج والوقائع الحياتية كمراجع نهائية، دوما كانت نسخة الفن هي التي تحظى باهتمامه. طموح لكتابة كالحلم المنسي أو الكلام الذي لا يقال وقت طلبه. وهذا ما أكده بقوله: “كما في الأحلام تكون الكتابة عمليات باطنية متداخلة، منطقية ولامنطقية، تجميع الحدث والصور والاستجابات وتطويرها بمكر. وأنا مثل الحالم أفكر بصمت وأصغي إلى كلام معاد ينطق به من صنعتهم داخل القصة. صراع نفسي حاد لا يكف”. لقد سعى محمود عبدالوهاب خلف استيهامات القصة راضيا بمكرها وأحلامها، ومضى حرا إلا من خطايا شخوصه وفضاء حيواتهم المعقدة.