يحتاج ترميز الشرق إلى دراسة تستخلص ما يمكن تشكله من صورة أخرى في الأدبيات الغربية، بعد رصد تنميطه وكشف الإشارات ذات الطبيعة العنصرية في موجات الاستشراق الأولى، أو في المخيلة المتكونة بفعل قراءات ناقصة أو مبتسرة للشرق عبر تراثه المنتقى للتعريف به غربيا. الشرق في أعمال أخرى رمز يشتغل باتجاه تحرير المخيلة. هكذا نفهم عمل هيرمان هيسه الرحلة إلى الشرق (1932) فهي معراج روحي شخصي ومستعاد بعد رحلة حقيقية قصيرة إلى الهند، لكن الكاتب غير معني بتمثيل الشرق كواقع مرئي بل كرؤى أو أحلام خيال تنساب داخل إطار السرد عن ذلك الشرق المرمّز الذي تحج إليه قلوب عارفيه، فتسكن إليه، لأنه زمان ومكان معا. يقول هيسه في الرحلة: “هدفنا لم يكن الشرق وحده، أو أن الشرق لم يكن مجرد بلاد أو شيء جغرافي، بل كان وطن الروح وشبابها، كان الشرق في كل مكان ولم يكن في أي مكان، إنه وحدة الأزمنة كلها”. يعلم الراوي أن الرحلة تتم في هلوسات مخيلة تعمل بلا حدود، فهو مثلا يلاحق حلما ملونا عاشه منذ الصغر: أن يلاقي الأميرة فاطمة ويحظى بحبها، فيما يذهب زملاء له صوب الشرق للعثور على سحر يفهمون به لغة الطير، أو يطيرون خفافا على محفات، فالشرق طريق أيضا (نحو النور والغرابة المدهشة) يسير إليه البشر في كفاح روحي حيث يغدو الشرق موطنا ومستقرا للأرواح التي أقلقتها مدن الحضارة، ومزقتها الحروب والأوهام. سنلاحظ أصداء الحرب الكونية الأولى في كتابات هيسه خاصة واستبداله ذلك كله بوطن شكلته مخيلته، وما رصده دارسو رواياته حول تأثره بأدب الصين والهند وفلسفتهما، واعترافه بأثر (قراءة الروائع الصينية) المترجمة إلى الألمانية. ليست الرحلة إلى الشرق إلا إحدى المتون الملخصة لرؤية الشرق رمزيا، لكن هيسه يتمثل الشرق الروحي وأفكاره في أعمال أخرى. “سيد هارتا” التي حظيت بأكثر من ترجمة إلى اللغة العربية تؤكد ذلك أيضا، فهي اعتراف آخر بروحانية الشرق وعمقه الفلسفي والسمو الإنساني، حيث يتلقى سيد هارتا دروسا طقسية، فيعلم أن باستطاعته أن يحب حجرا أو شجرة أو قطعة لحاء فيجد عزاءات وحيلا لاستيهاماته وهواجسه وتأملاته. هنا يتمدد السحر الذي نقلته حكايات ألف ليلة وليلة والتي يذكرها الراوي في الرحلة كمولّد لحلمه بلقاء الأميرة فاطمة. لا يرى الراحلون إلى الشرق تلك الأشياء الظاهرة عنه بل يغوصون في أعماقه فيصبح (الغبار أكثر نعومة من الحرير) بعبارة آنا ماريا شيمل، و(جنائن مأرب المغطاة بالرمل لا تخفي ابتسامات ملكة سبأ التي لا تزال تلون الأرض) ـ من ديوانها “عنادل تحت الثلج” ترجمة أمل الجبوري. ثمة شرق آخر شخصي وروحي تبنيه أدبيات كثيرة جديرة بالقراءة تتيح إمكان تصور الصلة به دون عقد وأحكام مسبقة.