أغلب الوظائف لا يمكن إطلاقاً النجاح فيها من دون حبها؛ غير أن هناك وظائف لا يصح العمل أساسا بها من دون عشقها والشغف بها، كالاشتغال في السياحة؛ وأنا هنا لا أسوق مثال السياحة كتشبيه عابر، وإنما كحالة أصيلة يقاس عليها الكثير من الوظائف التي يجب ألا يحصل عليها أياً كان، مهما امتلك من مؤهلات وتزكيات، فعشق ما تصنع هو شرط أساسي للقبول بوظيفة من هذا النوع، ومن دون هذا العشق سيعمل من يمتهن هذه الوظيفة على العكس تماماً مما هو متوقع منه. بعد زيارتين إلى دولتين عربيتين وبدعوات رسمية من هيئات تنشيط السياحة فيهما، تكررت المشاهد السلبية ذاتها التي مفادها أن القائمين على هيئات السياحة هناك –حتى لا أُتهم بالتعميم - هم من يحتاجون إلى تنشيط؛ فهم - بلا أي تجنٍ - كسالى اتكاليون، غير قادرين وغير راغبين في الترويج السياحي لبلادهم، وكأنهم غير معنيين بالأمر؛ زد إلى ذلك عدم توانيهم إطلاقاً عن إظهار الصور السلبية المسيئة سواء بسلوكيات خاصة علنية، أو بمغالطات معلوماتية تنم عن جهل حقيقي بمفردات المكان ومكوناته. عندما يمتهن أحدهم مهنة تقوم أساساً على التعريف بالوطن والترويج لمكامن الجمال فيه سواء أكانت أثرية أو ثقافية أو ترفيهية، عليه أن يكون عاشقاً شغوفاً في البدء لمفردات وطنه الخاصة، تلك المفردات التي يجب أن يعيها جيداً لأنها تحقق له الفرادة كمواطن في وطن لا يشبه غيره من الأوطان؛ عليه أن يكون مغرماً بوطنه، لا يمل الحديث عنه كحال كل عاشق؛ ومن دون هذا الشغف، لن يفلح في إثارة إعجاب الآخر السائح الذي من المفترض أنه تكلف عناء السفر لمعايشة ما سمع عن جزء بسيط منه، بل على العكس، فقد ينفره من المكان من دون وعي منه بذلك! كنت طوال الوقت أتعجب من البنى التحتية السيئة ورداءة الخدمات والإهمال الحضاري لمفردات المكان وافتقاره لأبسط البديهيات في الكثير من الدول العربية التي تمتلك مقومات فريدة لقيام صناعة سياحية ناجحة؛ الآن تأكدت أن الأمر لا علاقة له بضعف الموارد المالية، بل أستطيع الجزم بأن هناك هوة سحيقة بين السياحة والقائمين عليها؛ بين واقع ثري تاريخياً وثقافياً, وواقع بشري يفتقر إلى أدنى قدرة على التعاطي مع أدبيات عشق الوطن وتاريخه. فوجئت بقدرة ذلك النحات المصري القديم، في رسم تفاصيل دقيقة في وجه عمله لكي ينقل - عبر التاريخ - الحالة النفسية للمنحوتة وقت النحت؛ فيظهر الوجه إما جزعاً مرعوباً في تفاصيل دقيقة من ملامح الوجه، أو فرحاً مسترخياً، أو في حالة تركيز ذهني؛ ولكن وعلى ما يبدو أن هذه البراعة اللامتناهية في الاهتمام بالتفاصيل والإشارات فُقدت بالتقادم. Als_almenhaly@admedia.ae