كانت الخيبة مضاعفة. لم تسعفني احترافية ليوناردو دا فينشي، وموهبته الاستثنائية وتقنياته المتفردة، في اقتناص لحظة دهشة واحدة وعدت نفسي بها لسنوات طوال. وصلت إلى متحف اللوفر الباريسي بدافع شوق متأصل لمشاهدة السيدة «موناليزا». استعنت بخريطة تدل على مكان عرض اللوحة الأسطورية. استرشدت بعلامات على الجدران. سألت أدلاء. تبعت الحشد. سابقت الجميع، بروح استئثارية، كأن اللوحة التي بدأ دا فنشي برسمها عام 1503، وانتهى منها عام 1510، لن تنتظر بضع دقائق لكي تبيح كنوزها الجمالية للسائل والمحروم.. في قاعة، عارية، باردة، مربعة الأبعاد، كانت أيقونة كل العصور تنتصب في منتصف الجدار فوق قامة إنسان فارع. تحلق عشرات في نصف دائرة أمام جوهرة الفن التشكيلي الكلاسيكي. كان أغلبهم يابانيين. صمت كنائسي جليل. بادرت إلى دخول محراب المتعة البصرية والروحية الموعودة. طبّقت كل التعليمات المختزنة عن طرق المشاهدة وزواياها. فاجأني، أولا، صغر حجم اللوحة (77*53 سم). ربما تكون كل الأرقام والمعلومات التوثيقية، غير جديرة بصياغة الخيال. أقنعت نفسي. وقفت مواجها للوجه الملائكي أبحث عن اللذة المباحة. فشلت. الخلل في زاوية الوقوف. فلأنحرف ناحية اليسار.. باتجاه اليمين، إلى الأمام خطوة، إلى الخلف خطوتين. النتيجة نفسها. رفعت قامتي على رؤوس أصابعي كما تفعل راقصة باليه روسية لم تبلغ بعد، فاكتشفت بُعد الشقة بيني وبين «بحيرة البجع». لويت جسدي على طريقة لاعبة سيرك عجوز ما زالت تحتفظ بنضارة بهلوانية، فكدت أصاب بالتواء لا شفاء منه.. وما زالت مراودات السيدة موناليزا عصية.. أين تلك الابتسامة الغامضة؟ هل أعدّها الرسام الإيطالي لمن كان بها خبيرا؟ هل تحمل تلك الابتسامة معنى السخرية، وقد أكون الوحيد المقصود بها؟ وتلك النظرة الخبيئة، أو الخبيثة، هل تمارس نوعا من التمييز العنصري؟ استذكرت عشرات المقالات عن اللوحة، منها دراسة مقطعية أعدّها باحثان أميركيان عن الإيحاء الجنسي الملغز في «موتيفات» معينة للوجه. لكن موناليزا، ظلت كزوجة العزيز، محرّضة وممتنعة.. حولي، راح اليابانيون يرسمون «اسكتشات» بدهشة حقيقية. راقبتهم حاسدا. واحدة منهم كانت ترسم بكفاءة محرك «تويوتا». تتبعت حركتها: تتمدد وترسم. تنثني وترسم. تنكمش وترسم. تقرفص وترسم. ركعت قربها. نامت على الأرض بوضع جنيني تواصل الرسم. تكورت خلفها. لكن موناليزا ظلت أمنع من الستار الحديدي أيام الرفيق ستالين. اقتنعت بالخيبة، فأيقونة ذواقة الفنون ليست لي. بعدها بسنوات، سوف اكتشف أيقونتي الخاصة. يسمونها «موناليزا الشمال».. وتلك حكاية أخرى. عادل علي adelk58@hotmail.com