هذه الرحلة من بين رحلاتي الضاربة في شتى الامكنة، حملت خصائصَ طريفة من بداية انطلاقتها. فبعد توقف دام 8 ساعات في امستردام وصلت بعد منتصف الليل، فاذا بالحقيبة لم تأت. ظللت في امستردام وبقيتُ في انتظار مجيئها الذي تحقق بعد يومين. بعد عودتي نحو المطار مرة اخرى متجها نحو القرية الالمانية (شوبنغن) التي انوي الاقامة بها فترة. كانت الساعة الثالثة ليلاً والمسافة من المدينة حتى المطار تستغرق ساعة ونصف الساعة. الدنيا موحشة والشوارع مقفرة حتى من الشاحنات، ومصابيح الشوارع مطفأة تماماً، بالكاد تسمع حركة موج المحيط الغارق في الظلمة. وأنا لم أنم. كانت آخر سهرة قاصفة مع الأصدقاء في مهرجان الثقافة. السائق الذي ينقلني نحو المطار ينقطع بغتة عن الكلام ويسرح في عالم بعيد. فجأة يخرج علبةً يسكب منها سائلاً (مادة بيضاء) على راحة يده. يظل يشتمُّها بعمق حتى ينقطع نَفَسه ويعاود الدورة بعد الأخرى، والسيارة تتهاوى في أكثر من اتجاه في ذلك الليل القاسي الكثيف الظلمة ثم يندفع نحو التسجيل بأقصى طاقة الصوت. الشاب خالد والشاب ميمي وشباب آخرون. لا أستطيع وصف الحالة التي انتابتني، والمسافة ليست قصيرة. دخلت في مستنقع من التوقعات الخطِرة وكلها ممكن وطبيعي في سياق هذه الحالة. كنت اخفف من وقع هواجسها المفترسة بالتطلع إلى النجوم مرسلة ضوءاً باهتاً في تخوم المحيط. أو النظر إلى شجرة وحيدة تهزها رياح الليل فتوحي بأنها غابة. وأحياناً استلُّ من الذاكرة المرتبكة حدثاً ما عشته في المدينة التي نحن بمحاذاتها، حدثاً حميماً، ذكرى لطيفة. أخذ السائق يسترد وضعه الطبيعي تدريجياً وكأنما عاد من رحلة لمدينة خارج العالم، أخذ يتحدث عن أحد شباب الأغنية وقال انه يعيش في فرنسا. كرر الجملة ست مرات وحتى وصلنا المطار وكأنما اجتزنا الصحراء الكبرى. عانقني كصديق قديم. أحسست بمتعة من اجتاز نفقاً من الكوابيس والأشلاء.