على حافة النيل العظيم تصعد النخيل عالياً إلى قبة السماء، تزداد شموخاً وصعوداً، ينساب الأزرق البديع حاملاً المراكب التي تمشي الهوينا رافعة أشرعتها أمام النسيم العليل، لا أمواج عالية ولا ريح تقتلع الأشرعة، الهدوء الجميل والسكينة تحط على كل شيء، الأرض تفرح بناسها ومحبيها، الناس هنا جميعاً أصدقاء وأحباب، يمدهم النيل الرائع بروح المحبة والاشراق والهدوء والجمال· هذه الأرض الطيبة والجميلة هي التي أثرت في الإنسان المصري، ومدته بالروح الشفافة والمحبة والمودة، زرعت فيه حب الناس ايا كان لونهم وصنعتهم وبلدهم، وحدها مصر تشعرك بأنها بلدك وأرضك، وأنك لست غريباً عليها، تحبها من أول زيارة ولا تنفك منها أبداً· ولعل قول الأخوة المصريين صادقاً وحقيقياً، بأن الذي يشرب من النيل، لابد أن يعود إليه· تغيب عن مصر، قد تطول المدة أو تقصر ولكنها تأتي هذه المحبوبة الجميلة في يوم وتطرق قلبك بقوة، وتدعوك بشوق بأن تزور معشوقتك، حتى وأن جاءت الزيارة قصيرة· هذه الحكاية أو الموقف يؤكده الجميع الذين زاروا مصر يوماً، قد يغادرها البعض وهو عازم بألا يعود مرة أخرى، أو أنه ارتوى من نيلها وأخذ كفايته، ولكن في لحظة ما يعود إليه الشوق ويناديه النيل، بأن أرجع إلى شيء ما تركته هناك، وقد يكون قلبك· وربما ذاكرة سرت في ليل التداعي على ضفاف النيل ونشيد مركب شراعي يعبر في مساء قمري، أو حفيف نسيم الفجر على جريد النخيل أو حبيبة قديمة تركتها هناك· الآن أقف على حافة النيل وأنظر إلى المسلة المرتفعة إلى السماء حاملة الرسوم والنقوش والكتابات القديمة، وجوارها المعابد والآثار الكثيرة التي تؤكد أن الأقصر هي أرض الحضارة والحياة، هي البدء والتاريخ والفنون، هي صوت الماضي والدروس التاريخية التي ما زال يتعلم منها البشر· في الأقصر تشعر بأنك تعيد ترتيب فكرك ورؤيتك عن الحضارة البشرية، وتنتهي إلى أن الإنسان وحده يستطيع أن يهزم المستحيل، وأن يعيد بناء الأرض وما عليها، إن هو امتلك الحكمة والقوة والإرادة· هنا مدرسة مجانية للعبرة وإعادة قراءة مقدرة الإنسان، الذي يصنع الحضارة، لا أدري لماذا حتى اليوم لم نتعلم المزيد من التاريخ وهذه الحضارة العظيمة وهذا الإرث الكبير؟