في وجه من وجوه الاغتراب الكثيرة المتعددة، التي شكّلت العامل الجوهري للأدب والفلسفة، هو ذلك الشعور المهيمن بالانفصال عن المحيط والأشياء والقيم السائدة المتداولة... شعور لا يخفف فداحته أي توّسلات يحاول الفرد المغترب أن يستدعيها ويمارسها ليزيح ثقل هذا الشعور أو يخفف من سطوته التي تطبع السلوك والتعبير... ليس الشعور بخسران الوجود واضطراب الكينونة في منحاه الوجودي (الانطولوجي) فحسب، وإنما الشعور المغترب تجاه المعيش اليومي وأنماط الحياة، من السكن وطبيعة العلاقات الماديّة المحضة في بلدان لا تفتأ تجر ذبول الادعاء بأنها متماهية مع تراثها وتاريخها المشرق، وهي في واقع الحال ليست متماهية إلا مع الجانب السلبيّ وقيمه من هذا التراث، كما هي كذلك في الالتقاء حدَّ التماهي والانسحاق مع قيم الحضارة المهيمنة (الغربية الأميركيّة) في البرهة الراهنة... الجوانب الروحيّة المُدَّعاة لا تحضر إلا كطقوس إعلاميّة وأوامر ونواهي تعليميّة لحظية، وليست كممارسة فعليّة لمجموعة قيم تحوّلت إلى سلوك وفاعليّة اجتماعيّة حاسمة.. إنها على مستوى المظهر وليس الجوهر المقذوف في مهبّ الغرائز والقيم الاستهلاكيّة والمنفعيّة في أكثر أشكالها فجاجة وسطحيّة... وإلا فما معنى هذا التكالب وهذا الافتراس الذي لا تستطيع حتى القوانين التي يتم التحايل عليها وتحطيمها إن وُجدت، من قبل (الأقوياء) وأزلامهم ـ كبح جِماحه.. وحدهم الأفراد المغتربون، يحسّون بذلك الانفصال الذي يدفعهم إليه المحيط البشري والقيمي. فهم يعيشون المنفى والاغتراب حتى داخل أوطانهم حسب التوحيدي. تلك الأوطان التي مزقهم إليها قبل ذلك الحنين... وعلى طريقة (مجبر أخاك لا بطل) لا يستطيعون التواصل إلا على مضض، دعك من التوحد والاندماج، سيكون حلم التوحد مع محيط آخر تخترعه المخيّلة وسيؤثثّه المغترب بمخلوقاته الخاصة وطُرز عمارته وقيمه الجماليّة التي ربما لا توجد على هذه الأرض، إلا في بطون الكتب والأجداث وَنزْر من أولئك الذين غرّبهم الضياع وانحدار الأزمنة.. يفكر المغتربون، أن هذا الانفصال، ليس سلباً فظاً بمجمله، وليس جحيماً وكما عبر الفيلسوف الفرنسي، فالجحيم هم الآخرون، في هكذا أوضاع وقيم، وسيكون الانفصال في ضوء هذه النظرة، واحة المغترب وجنته المفقودة في التواصل والزحام. في هكذا مجتمعات لا يجد الفرد شيئاً من ذاته إلا في العزلة والليل والظلال، فيكون الاغتراب أحد النِعم التي منَّ بها الباري على مخلوقاته المعذّبة والتي هي دائماً في قلب المحنة والاختبار. وفي هذا المنحى سيكون (العمى) أيضاً ضمن منظومة تلك النعم كما عبر طه حسين: (الحمد لله الذي جعلني أعمى كي لا أرى وجوهكم).