بدأ شكل شعري جديد يُطلّ على النوادي النقديّة من النوافذ دون أن يجرؤ على الدخول من الأبواب. والحق أنّ الشعر عرف تطوّراً على مَرِّ العصور وكَرِّ الدهور، غير أنّ القصيدة العموديّة ظلّت هي الشكل الأرقَى، ومن ثَمّ الشكل الذي يتذوّقه عامّة الناس. وظلّ التطوّر الذي لحِق الشعرَ العربيّ يتطوّر خارج إطار الشكل الشعريّ الرسميّ، أو ما يسمّيه أبو عليّ المرزوقي: “عمود الشعر”، وهو المفهوم الذي استحال لدى النقاد العرب المعاصرين إلى “الشكل العموديّ”، أي إلى القصيدة العموديّة التي تختلف في الحقيقة عمّا كان يريد إليه المرزوقي، وهي القصيدة التي لم تعُد تبكي الديار، ولا تُشَبِّبُ بحبيبةٍ غيرِ موجودة في حياة الشاعر.. وإذا كان الشعر العربيّ تطوّر على هامش القصيدة العموديّة، فإنّ ذلك لم يمنع كثيراً من الشعراء من محاولة استحداث أشكال شعريّة جديدة بعضها فصيح، أو فصيح على هون ما مثل الموشّحات الأندلسيّة، وبعضُها مزيج من الفصيح والعامّيّ كالأزجال التي كانت سائدة على عهد ابن خلدون... غير أنّ التطوّر الذي عرفه الشعر العربيّ منذ ستين سنة تقريباً كان مذهلاً فحاول أن يغيّر مسار الشكل الشعريّ السائد إلى شكل شعريّ جديد لا عهدَ للذوق العربيّ به من قبل، فابتدأت هذه الحركة باستحداث شعر التفعيلة التي إن صدمت الأذواقَ في أوّل أمرها، فإنها لم تلبث أن أصبحت مألوفة لدى المتلقّين العرب لتعويلها على الميزان العروضي الذي يُفْلت، أثناء ذلك إن شاء، من القافية الموحَّدة لنص القصيدة... وتحت تأثير الترجمة من اللغات الأجنبيّة إلى العربيّة، وتحت تأثير القراءات المباشرة في اللغات الأجنبيّة، وبحكم التطوّر المذهل الذي لحق بحقل التواصل بين البشر على عهدنا هذا.. أمسى كثير من الشعراء العرب المعاصرين، وخصوصاً الشبابَ منهم، ينحُون منحىً شعريّاً لا علاقة له بالشعريّات العربيّة لا في شكلها العمودي، ولا في شكلها التفعيليّ، وإنما أمسَوا يكتبون شيئاً يسمّونه “قصيدة النثر”، أي أنّه ليس شعراً، وإنما هو نثرٌ مكثّف على هون ما، تشبُّهاً بالشعر!... وأصبح لهذا الشكل من الكتابة أشياعٌ كُثْرٌ لأنّه أصبح ميسوراً على كلّ من شاء أن يكتبه، كتبه، فلا هو يتطلّب ميزاناً عروضيّاً، ولا هو يستدعي نسْجاً يدْرُج في مسار الشعريّة العربيّة، ولا هو يتطلّب معجماً لغويّاً ثريّاً؛ ولكنّه ضرْبٌ من الكتابة العبثيّة التي هي مظهر جميل، مع ذلك، من مظاهر هذا العصر الذي أمسى مفتوناً بالجديد والتجديد في كلّ شيء... فهل سيُكتب لهذا الشكل العبثيّ من الكتابة النجاحُ، ومن ثَمّ الخلودُ، أم سيكون مجرّد موضة سرعان ما تختفي وتضمحلّ فتمسي قديمة، ليميلَ الناس على شكل شعريّ آخرَ يصير جديداً...؟