أهداني الدكتور محمد ولد عبده كتابه “السياق والأنساق في الثقافة الموريتانيّة” (الشعر نموذجاً)، فاستمتعت بقراءته، وأفدت من غزارة معلوماته، فهو كتاب يمكن أن يكون مثالاً حقيقيّاً لِمَا ينبغي أن يكون عليه البحث المنهجيّ في الظواهر الاجتماعيّة في المجتمع الموريتانيّ. وبحكم محدوديّة حجم هذه المقالة، فإنها لا تستطيع الغبورَ في تفاصيل القضايا الاجتماعيّة، ولا في منهجيّة التحليل التي انتهجها الباحث في سعْيه إلى الكشف عن أدقّ تفاصيل الحياة العامّة من عادات وتقاليد وثقافات في المجتمع الموريتاني، ولذلك لن يمتدّ طرْفي إلى الجانب الأدبيّ، أي مجال الشعريّة الموريتانيّة في هذا الكتاب، وسأجتزئ بمجرد الإشارة إلى مفهوم واحد كان الباحث توقّف لديه بعمق وأنَاة، آملاً أن تتاح لي فرصة ملائمة من أجل تقديم قراءة معمّقة ومفصّلة تليق بمكانة هذا الكتاب الذي يقع في أكثرَ مِن أربعِمائةِ صفحةٍٍِ من القطع الكبيرة. وفي انتظار ذلك أودّ أن أتساءل اليومَ، من باب الفضول المعرفيّ، وليس من باب النقد: لماذا جعل المؤلِّف أحدَ اللفظين المركَّبِ منهما العنوانُ المركزيُّ مفرداً والآخرَ جمعاً: (السياق والأنساق)؟ أم إنّ السياق لا يعدو كونه حاملاً لمعنى الإفراد فلا يتعدّد؟ وهلا تعمّق الباحث في مَفْهَمَةِ مصطلح «السياق» بعد أن لم يكن يشمل في كلّ المعاجم العربيّة، بل في الموسوعات المعرفيّة الإسلاميّة أيضاً، مثل «التوقيف على مهمّات التعاريف»: إلاّ معنى النَّزْع، أي الْجَوْد بالنفس عند الاحتضار، ومعنى الْمَهْر الذي يسوقه الرجل للمرأة حين يتزوجها... وإذا كان الباحث توقّف طويلاً لدى هذا المفهوم في فكر علماء الأصول فإنه لم يأتِ ذلك بالقياس إلى البلاغيّين، إلاّ إذا كنت أسأت القراءة، فمعذرة. والحقّ أنّ السياق ضروريّ لفهم الظاهرة الأدبيّة، وحتى الظاهرة الاجتماعيّة، لأنّه هو المتحكّم الخارجيّ فيما يمثُل لنا ذهنيّاً أو حِسّيّاً من أشياءَ وقِيَمٍ. وإذا كان الباحث ولد عبدي ركّز على هذا المفهوم في توطئة البحث فبِما إحساسِه بضرورة فهْم القارئ لأهميّته المركزيّة في توجيه القضايا والْمُثُل والقِيَم جميعاً. فالسياق بمثابة المرجعيّة الشرعيّة التي يتأتّى من خلالها فهْمُ ما يكون ثمرةً من ثمراتها. ويميّز النقاد الجدُد تمييزاً يمكن اختزاله في أنّ النقد السياقي يعوّل على تحليل الظاهرة الأدبيّة من خلال ما يحيط بها، في حين أنّ النقد النسقيّ هو ما لا يعوّل على ذلك ويجتزئ بتحليلها من خلال لغتها. ما أكبرَ هذا الكتابَ الذي ربما يكون أحسنَ ما قرأت في هذا العام. وأحسب أنّ القارئ سيغنَم كثيراً بقراءته لأنّه لا يجتزئ بتوصيف المجتمع الموريتاني وثقافته توصيفاً أنتروبولوجياً واجتماعيّاً فحسْب، بل يتناول، من خلال ذلك، الثقافة العربيّة كلَّها