اجتهد العلماء في الكشف عن الطابع الشفاهي للشعر العربي الفصيح، وأرجعوا إليه بعض خواصه الإيقاعية والتركيبية والتعبيرية، ثم شاع مصطلح الشعرية على ألسنة الدارسين ليشير اليوم إلى تلك العناصر التي تجعل الأدب أدباً وتقيس درجة وصول أي جنس أدبي لذروة إتقانه وكمال توظيفه لتقنياته الفنية حتى يحدث أقوى تأثير جمالي على المتلقين، فأصبحنا نتحدث عن شعرية السرد وشعرية المسرح والصورة وعن شعرية الشعر بطبيعة الحال، وقد آن الأوان لنسهم في إعادة الاعتبار لشعر العامية باعتباره إبداعياً فردياً متميزاً يصل فيه الشعر إلى درجة عليا من إتقان التعبير وقوة التأثير، ويستطيع توظيف الأشكال الشعرية والأنماط التخييلية في التمثيل والتصوير والمفارقة ليقدم رؤيته للغة والحياة، ويصنع أبنيته السردية والمجازية المكتملة، لكننا نريد أن نعرض لشيء من ذلك عن طريق بسيط ويسير وهو تذوق المادة الشعرية وتحليل شذرات متفرقة منها في قراءة حرة لنماذج مختارة من كبار المبدعين، ممن لايزال إنتاجهم حياً في ذواكر الناس ووجداناتهم وعلى ألسنتهم، وفي مقدمتهم الأب الشرعي لهذا التراث وهو محمود بيرم التونسي (1893-1961) المولود في الإسكندرية لأب تونسي، والمعاصر في شبابه لسيد درويش، حيث يمثل بيرم خاصية بارزة في إبداع عصر النهضة العربية، فهو من أصل تونسي احتضنته مصر وعشق الحياة فيها، ومارس النضال السياسي والاجتماعي حتى نفي منها إلى موطنه الأصلي في تونس، فوجد نفسه غريباً عنها مضطهداً بين قومه فعاد متخفياً إلى مصر، لكنه هجا الملك فؤاد وسلطة الاحتلال فنفي إلى باريس حيث مكث عشرين عاماً يعاني من شظف العيش ويمارس مهناً قاسية، وعندما قامت الثورة في مصر عام 1952 عاد بروح وطني أصيل ليسهم في تطوير حركة الغناء والمسرح وليرعى شعره وإنجازه، فأعادت له دولة الثورة الجنسية المصرية التي أنكرت عليه من قبل، وحصل في عام 1960 على جائزة الدولة التقديرية في الفنون والآداب ووسامها الرفيع من يد جمال عبدالناصر ولم يلبث أن رحل بعدها بعام واحد فقط. صدرت له دواوين متفرقة، لكن أعماله الكاملة لم تصدر إلا منذ عام 2011 بعد الثورة الجديدة، سوف أختار منها بعض الفلذات الثمينة التي تمثل شعريته البديعة الرائعة، وأولها قطعة طريفة يقدم فيها نفسه قائلاً: «الأولة آه، والثانية آه، والثالثة آه الأولة: مصر، قالوا تونس، ونفوني والثانية: تونس، وفيها الأهل جحدوني والثالثة: باريس، وفي باريس جهلوني» وصيغة التقاسيم التي تعدد الآهات وترصد المواجع الموقعة في وحدات موزعة معروفة في الزجل الشعبي، يوجز الشاعر فيها مراحل حياته في عدة سطور غنائية مفعمة بالشجن والزفرات الحارة، في بوح عاطفي مباشر يوجز حركات القطعة في امتدادها التالي، مفيداً من النسق الموسيقي في التركيبات الهارمونية، وتأتي بقية القصيدة لتفصيل المجمل بعد تكثيف اللحظة في انخطافة شعرية مركزة.