أُلقِيَ علينا سؤال عن علّة عنايتنا بقيمة الإنشاد في إلقاء الشعر، وقد تساءل الذي تفضّل بطرح السؤال عمّا يصنع اللّه بمقولات الكتابة، وفضاء الورق، والتشكيل البصريّ؟ أم إنّ للشعر العربيّ خصوصيّته؟ ويبدو أنّ هذا السؤال كان يقصد به إلى التعليقات البسيطة التي نعلّقها على القصائد التي تلقى في برنامج “أمير الشعراء”. ونحن نرى عن هذه المسألة أنّ العرب لأمر ما اختصّت قراءة الشعر بالإنشاد، لا بغيره من الإطلاقات الأخرى، كالإلقاء مثلاً... ذلك بأنّ الأصل في الشعر بعامة، والشعر العربي بخاصة، هو إيقاعه المغروز في صوره المنسوجة بلغة منتقاةٍ بعناية فائقة. ولأمر ما تعدّدت إيقاعات الشعر العربيّ فبلغت ستة عشر شكلاً إيقاعياً، أو طابَعاً بالمصطلح الموسيقيّ... هذا أمر، وأما الأمر الآخر فإن طبيعة القصائد الملقاة غير طبيعة القصائد المكتوبة، أو التي كُتبت لتقرأ أكثر مما كتبت لتلقَى فتهزّ وجدان الجمهور المتلقّي هزّاً، مثل قصيدة النثر، فالقصيدة العربية العموديّة يرتبط إلقاؤها باحتفالاتيّات خاصة، مما يجعل مِمّا ذكرتم من شأن التشكيل البصريّ، وفضاء الورق، وهما من التّعِلاّت التي ينادي بها مَن يعجزون عن مَلْءِ قراطيسهم بالشعر، فيملؤونها بالنُّقط والبياض، طالبين من المتلقّين أن يُكملوا كتابة ما يكتبون لكي يَفهموه، فهل كلّ قرّاء الشعر، بناء على هذا التصوّر، يستحيلون إلى شعراءَ فيُلْحَقُوا بهؤلاء الذين يملؤون أسطار قراطيسهم بالنقاط والبياض؟ وهل من واجب القراء أن يكونوا كذلك فتتغيّر الأدوار، وتتبدّل العَلاقات بين الإرسال والاستقبال في الكتابة الشعريّة؟ أم يجب أن تظلّ الأدوار هي هي، فلا تلتبس ببعضها بعضاً، ولا تتداخل فيما بينها؟... إنّ التشكيل البصري، إذا حقّ له أن يكون في المعمار الهندسيّ للكتابة الأدبيّة، إنما أولى له أن يكون في نص سرديّ مِن أن يكون في نصّ شعري كُتِب، في أصله، ليُمْتِع بموسيقاهُ وإيقاعِه، وإلاّ لكان الشعر استحال إلى فلسفة تُقرَأُ فتُتَأّمَّلُ في أعمق التفكير العقليّ البشريّ، أو إلى ألغاز مُلغزةٍ لا يفكّها شِقٌّ وسَطيح!... ولعل من أجل ذلك قال الناقد الفرنسي جون كوهين في كتابه “بنية اللغة الشعريّة” ما معناه: ليس الشاعر شاعراً لأنه يفكر، ولكنه شاعر لأنه يقول... وإذن، فلا نرى مكانةً للتشكيل البصريّ، على فرْض التسليم بقبوله، لِمَا يُنشَد من قصائدَ شعرية، خصوصاً، على جمهور يتلقّى الشعر عن الشاعر عِياناً وسماعاً، حيث إنّ التلقّي المشافه المباشر يحول بينهم وبين القدرة على فكّ ألغاز التشكيل البصريّ، ولا العَمْد إلى فعْل فضاء الورق... وبعد، فإن هذا الشكل من الشعر الذي طُرح عنه السؤال قد يكون خالصاً لشعر التفعيلة الجديد، والشعر الأجدّ، وليس للقصيدة العموديّة التي لا تعوّل في بنائها المعماريّ على الفراغات ومَلْءِ الأسطار بالبياض طوراً، والنقاط الملغزة طوراً آخر...